عود على بدء فقد استفسر بعض الكرام من القراء عن معنى قولنا أن بعض الأحاديث النبوية الصحيحة المتعلقة بالشئون الجبلية أى الأمور المعتادة التى يسلكها كل العقلاء فى بيئة معينة زمانا ومكانا، مثل كيفيات إعداد الطعام والشراب وتقديمه وتناوله وأنواع الثياب وتفصيلها وألوانها وأحجامها وغير ذلك من لوازمها. وطلب الطب والدواء وطريقة السفر والركوب،كل تلك الأحاديث الصحيحة فى هذه الشئون ليست من التشريعات الملزمة ولا من المستحبات أو المكروهات إلا فى بيئة مماثلة وظروف شبيهة بالظروف التى قيلت فيها. فالأصول الدينية فى القرآن وبيانها النبوى تفرض: أولا: أن يأكل الإنسان بماله الحلال الطيب الذى يمتلكه بجهده المشروع أو يرثه أو يهدى إليه من صديق يكتسب حلالا. أما الطيب فهو درجة ثانية بعد الحلال، فالطيب هو الحلال الذى تم إخراج حقوق الله فيه بداية بالزكاة ثم بر الوالدين، ثم إيتاء ذى القربى فيصبح المال حلالا طيبا. وثانيا: أن تكون أصناف الطعام والشراب قد أحلها الشرع، خالية من الشبهات، ليس فيها حرام. وثالث الضوابط فى مراعاة تناول الطعام بيمينك (مالم تكن أعسر أيسر) وأن تأكل مما يليك، وأن تأكل من الطعام ما يمنع للجوع ولا يبلغ الامتلاء والشبع، وألا تسرف مهما كان دخلك. كذلك ثبت حرصه (صلى الله عليه وسلم) الدائم على ألا يجمع طعامين فى وقت واحد فى بطنه ومعنى ذلك أن الوجبة الواحدة لا تشمل أصنافا متضادة صحيا وغذائيا تسبب سوء الهضم، وكان لا يتناول (صلى الله عليه وسلم) طعاما إلا بعد هضم وإخراج ما سبق تناوله. وكان (ص) لا يمدح طعاما ولا يذم آخر حتى لا يروج لصنف أو يصيب صنفا بالكساد، وذلك من حكمته حتى لا يحبذ طعاما وشرابا قد لا يوجد فى كل البيئات، وقد يرهق عليه البعض ماليا، وقد لا تميل إليه بعض النفوس. أما أصناف الطعام الحلال التى تناولها النبى (ص) فهذا شأن لا فرض فيه ولا سنة والشرع لا يكلف أحدا ولا يفضل طعاما حلالا على آخر إلا بمقدار شيوع الطعام ووجوده، وارتفاع قيمته الغذائية، وخلوه من أى ضرر ويكون من إنتاج الأمة أو أصدقائها، فإذا كان سهل الإعداد، ذا مذاق شائع مقبول فقد حقق طاعة الله وطاعة الرسول (صلى الله عليه وسلم). وفى الملابس فالعقلاء يدركون أنها بجميع أنواعها شأن بيئى محض تفرضه البيئة المحيطة وعوامل الطبيعة، مثل الأرض (زراعية صحراوية ساحلية... إلخ) والمناخ (البرد الحر... إلخ) كذلك فالثياب ذات علاقة مباشرة بنوعية العمل، فما يلبسه العامل فى الحقل غير ما يلبسه العامل فى البحر أو الجبل أو فى الفضاء (ملابس رجال الفضاء) كذلك فراكب الدابة غير راكب الدراجة والسيارة، فلكل منهم ثياب تريحه وتساعده على طبيعة العمل. لذلك ترى الشرع لا يحدد ملابس بذاتها بل يذكر ضوابط عامة، فجميع الملابس يشترط صناعتها من مواد غير محرمة ولخصوصية تكريم ورعاية النساء اشترط الشرع لثياب المرأة تغطية جميع الجسم إلا الوجه والكفين والقدمين، وذلك من خلال ضابطين محددين: ألا يشف الثوب عما تحته، ولا يصف ويحدد تفاصيل الجسم. أما ألوان أزياء جميع الأمة فتكون متقاربة لا شذوذ فيها ولا خروج على الذوق العام. هذه هى فرائض الملابس وسننها فلا تفضيل فى الشرع للجلابيب على غيرها. وكذلك إذا استوفت المرأة ما سبق بيانه فلا فضل للنقاب على الحجاب، إذ لم يثبت أن النبى (ص) فضل ثوبا على غيره، كما أنه لم يدع امرأة فى شأن الثياب إلى غير الستر. وطاعة الله وطاعة رسوله فريضة مفروضة أما التزيد عليها فليس من الدين فمن أطاق أن يشدد على نفسه فلا يحل له أن يدعو غيره لتلك الشدة، ولا ينس المسلم أن رحمة الله جعلت الشرع يستوعب القدر المشترك بين الناس جميعا بغير إرهاق ولا عنت وذلك من الإعجاز التشريعى المستوعب لجميع البشر فى جميع الظروف.