في رحاب المدينةالمنورة التقي أهل التضحية بالديار والمال وكل عزيز لديهم مع أهل الإيثار من الأنصار الذين فتحوا قلوبهم قبل بيوتهم للقادمين إليهم من أم القري الترحاب والصفاء والمودة تعطر الأجواء. الإيمان استقر في النفوس وملأ الوجدان والنور يبدو في الوجوه الرحمات هي القاسم المشترك بين القوتين من هؤلاء الرجال الذين اهتم الرسول سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم ببنائهم علي أساس من التقوي وخشية الله والخوف منه. وهكذا كان سيد الخلق صلي الله عليه وسلم يضع بناء الرجال في مقدمة الأولويات قبل بناء الديار. هؤلاء الرجال أشاد بهم رب العالمين في سورة الفتح "محمد رسول الله والذين معه أشداء علي الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الانجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاسغلظ فاستوي علي سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما" 19 الفتح. لقد كانوا نماذج وقدوة في كل شيء تصرفاتهم قدوة لرجالات الدولة في كل المجالات وفي مناسبة ذكري الهجرة المباركة التي تتكرر مع مطلع كل عام هجري يجدر بنا ان نستعرض الجوانب المشرقة لهذا الحدث الهام في تاريخ الأمة الإسلامية بعد بعثة سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم. ولأن الأمم يقاس تاريخها بالانجازات التي تحققت وليس بعدد السنوات والشهور ففي خلال ثلاثة عشر عاما في أم القري استطاع سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم ان يعلن تلك المبادئ السامية التي تعلي من قدر الإنسان أيا كانت جنسيته كلمة التوحيد الطريق لفتح القلوب وهي الحصن الحصين في ترك عبادة الأصنام وهدم تلك العادات التي تأصلت في أيام الجاهلية. استنارت العقول وأصيب أصحاب الريبة والتمسك بالقديم بالدهشة وتوجهوا إلي سيدنا محمد صلي الله عليه وسلم في محاولة يائسة لإثناء الرسول عن طريق الحق والهدي وقالوا: يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سفه احلامنا وعاب الهتنا وفرق بين ابنائنا وعرضوا عليه عروضا في مقدمتها ان كان يريد مالاً جمعنا له ما يريد وان كان يريد سيادة منحناه هذه السيادة. كل ذلك في لهجة يشتم منها التهديد لبني عبدالمطلب. وقد استمع اليهم أبوطالب بكل رحابة الصدر لكنه لم يهتز ولم يتحرك خوفا من تلك اللهجة فهو سليل بني هاشم أهل الريادة والسيادة وحماية البيت العتيق. بعد أن انصرف هؤلاء القوم استدعي أبوطالب ابن أخيه سيد الخلق صلي الله عليه وسلم وأخبره بما جري ثم قال له: يا ابن أخي اجعل هذه الدعوة مقصورة عليَّ وعليك. لكن في إصرار وعزيمة رفض رسول الله هذا المنطق اليائس الجاهل وقال قولة هي نبراس لكل صاحب دعوة حق فقد أنهي إلي مسامع عمه قائلاً: والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري فلن أتركك حتي يظهره الله أو أهلك دونه" فأيده عمه بكل قوة وتركه يمارس دعوة الحق والنور والهدي. ثم كان بناء الرجال في مكة ورغم أن المستضعفين هم الذين استجابوا في البداية إلا أن القوة أخذت تنمو واشتد عودها رغم العقبات التي رصدها أهل الشرك مرة قالوا ساحر وفشل هذا الاتجاه وأخري قالوا: مجنون وكان التساؤل إن ما يبشر به يؤكد مدي العقلانية باءت كل المحاولات بالفشل. العناد والضغينة التي ملأت قلوب أهل الضلال وانتشر النور وأقبل أهل المدينة في موسم الحج كالعادة كل عام فكانت بيعتا العقبة الأولي والثانية. حيث الشرارة التي انطلقت لبناء قوة أخري من الرجال كانوا علي قلب رجل واحد لحماية سيد الخلق ودعوته وأخذ رسول الله. صلي الله عليه وسلم. يدعم القواعد الإيمانية في القلوب وأرسل إليهم مصعب بن عمير أحد الرجال الذين حفظوا القرآن الكريم وتعلموا في مدرسة سيد الخلق فكان خير رسول لأكرم نبي وعم النور كل أركان المدينةالمنورة. ووسط هذا العبق الإيماني كان إذن رسول الله لأصحابه بالهجرة إلي ديار الأنصار فكانت البشريات تؤكد مدي صدق الأنصار وإيثارهم حين وصلوا إلي تلك الديار المباركة كانت المؤاخاة التي وضع لبناتها سيدنا محمد. صلي الله عليه وسلم . وكانت ذروة هذا الإيثار تتجلي في أن كل أنصاري كان يقدم لأخيه المهاجر منزله ليختار أفضل موقع للإقامة به. والأكثر من هذا فقد كان الرجل من الأنصار يقدم إحدي زوجتيه ليختار الأفضل منهما. منتهي الشهامة والقوة الإيمانية فاستحق الفريقان ما جاء في حقهما في سورة الحشر "للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون علي أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون" 8-9 سورة الحشر. مظاهر الإيمان والأنوار تتجلي في تصرفات رجال القوتين. العفة لدي المهاجرين والإيثار وتقديم أغلي شيء من الأنصار. القوتان انصهرتا في بوتقة حب الله ورسوله طاعة وامتثالاً وتقديراً للمهام التي وضعها رسول الله علي عاتق كل منهم فكانت الإشادة بالقوتين من رب العباد من فوق سبع السماوات. شهادة الحق تبارك وتعالي أبلغ دليل علي عطاء الفريقين ومن أصدق من الله حديثاً. مضي الركب يمضي نحو طريق البناء والتنمية واكتمل الأمر بوصول رسول الله صلي الله عليه وسلم إلي الساحة المباركة فالتف حوله الأنصار ومن قبلهم المهاجرون تآلف وقوة. دروس وإشراقات نستلهم منها بعض القطوف الدانية لعلها تضئ لنا في مصر الطريق ونحن نبني دولتنا علي أساس جديد من القواعد الثابتة يأتي في مقدمة هذه الدروس المستفادة: * وحدة الكلمة والهدف والإتقان علي العمل وبناء دولة العلم والإيمان التي أرسي دعائمها رسول الله صلي الله عليه وسلم. * نكران الذات وبذل أقصي الجهد لكي يكتمل بناء الأمة بقوة وعمل جاد لا يعرف اليأس أو التواكل أو المراوغة. * عدم تشتت الآراء وإنما التمسك بالهدف الواحد والانطلاق نحو تشييد صرح الأمة التي قامت في هذه المنطقة تنشر العلم والعدل وتعلي راية الحرية واحترام حقوق الإنسان. * توقيع المعاهدات التي تتضمن بنوداً تحفظ للأمة الإسلامية الجديدة كيانها وتضمن للآخرين نفس الحقوق والواجبات. * الحكمة والسماحة هي المظلة التي امتدت إلي كل ركن من أركان تلك المنطقة مما جعل الوفود تقبل علي هذه الأمة ليس هذا فحسب وإنما رحبوا برجالاتها فاتحين لنشر ألوية الحق والعدل. * كانت القوة والبناء للدولة علي قواعد ثابتة ولا محاباة لأحد الكل سواسية كأسنان المشط لا فرق بين عربي وآخر إلا بالتقوي والعمل الصالح. * دروس متعددة في كل جوانب الحياة ليس في النواحي العملية فقط وإنما في بناء البشر وتربية الأجيال علي تلك القواعد الإيمانية بيننا نضعها نصب أعيننا خاصة بعد ثورة الشعب في 25 يناير. * * * * دعاء ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار. ربنا نعوذ بك من الضلال بعد الهدي. ونسألك أن تملأ قلوبنا بالإيمان. ونسألك أن تحفظ علينا عقولنا وديننا وذاكرتنا وتجعله الوارث منا. اللهم ألهمنا الصواب في الفكر والقول والعمل برحمتك يا أرحم الراحمين.