عندما هاجر الرسول صلي الله عليه وسلم من مكةالمكرمة إلي المدينةالمنورة، انتقلت الدعوة الاسلامية من الدور المحلي إلي الدور العالمي، ومن عهد مكي إلي عهد مدني، ومن ضعف إلي قوة، لأن بالهجرة تم انتصار الدعوة، ولم تكن الهجرة هروبا ولا انكسارا، وإنما كانت انطلاقا وانتصارا، فبها انتصرت دعوة الاسلام، وأخذت طريقها في الانتشار وبعدها دخل الناس في دين الله أفواجا. ولذلك عبر القرآن الكريم عنها بأنها كانت انتصارا، حيث قال الله سبحانه وتعالي »إلا تنصروه فقد نصره الله اذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين اذ هما في الغار اذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا« سورة التوبة (04). وكون الرسول صلي الله عليه وسلم أسس الدولة الإسلامية الجديدة في المدينةالمنورة علي الأسس الآتية: أولا: كان الأساس الأول هو توثيق الصلة بالله تعالي، لأن أي مجتمع لا يكون متصلا بالله لا يكتب له النصر ولا النجاح، ولأن الاتصال بالله يعزز أهل الحق وينصرهم نصر عزيز مقتدر وتمثل توثيق الصلة بالله ببناء المسجد النبوي الشريف الذي كان أول عمل قام به رسول الله صلي الله عليه وسلم في المدينة وشارك بنفسه في بناء المسجد النبوي، ليوضح أهمية المسجد وأهمية رسالة المسجد في أداء الشعائر وتوثيق الصلة بالله سبحانه وعقد مجالس العلم والخير. ثانيا: كان الأساس الثاني يتمثل في المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، فقد آخي الرسول صلي الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، وجعل منهم اخوة متحابين تعاونوا وتحابوا بروح الله فأصبحوا متعاونين علي البر والتقوي، وكان الأنصار عند حسن ظن النبي بهم، لدرجة أن هذه المؤاخاة لم يقف أمرها عند حد المؤاخاة فحسب بل أصبحوا بها يتوارثون كما يتوارث الأبناء من آبائهم حتي نزل قول الله تعالي: »وأولو الأرحام بعضهم أولي ببعض في كتاب الله« سورة الأنفال (57). وكان من ثمرة هذه المؤاخاة ما تميز به الأنصار من ايثار غيرهم علي أنفسهم، حتي ان أحدهم عندما يأتي لرسول الله صلي الله عليه وسلم ضيف ولا يجد في بيوت أمهات المؤمنين شيئا يقول: من يضيف ضيف رسول الله صلي الله عليه وسلم، فيأخذه واحد من الأنصار ولا يجد سوي طعام الصبية، فتعلل امرأته أبناءها حتي يناموا ويوضع الطعام وتقوم لاصلاح السراج فتطفئه حتي لا يري الضيف أنهما لا يأكلان شيئا ليأكل الضيف وليؤثروا ضيف رسول الله صلي الله عليه وسلم علي أنفسهما فإذا ما انتهي وأصبح الصباح وذهب الرجل إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول النبي صلي الله عليه وسلم له: »لقد عجب الله من صنيعكما بضيفكما أمس« ونزل قول الله تعالي: »والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون علي أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون« سورة الحشر (9). ثالثا: وكان الأساس الثالث الذي أقام الرسول صلي الله عليه وسلم الدولة الإسلامية عليه هو تلك المعاهدة التي عاهد فيها المسلمين وغيرهم من اليهود والمشركين فشرط لهم وشرط عليهم وهي تعتبر أول وثيقة عرفتها البشرية لحقوق الإنسان. وهذه المعاهدة تفحم بعض الذين يتشدقون بأن في الاسلام عصبية أو أن فيه عنصرية فكانت أسس الهجرة تحمل أوضح الدلائل علي تسامح الاسلام. رابعا: ومن أهم الأسس أيضا العدالة التي نشرها الاسلام منذ أول لحظة والتي أمر الله تعالي بها »إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلي أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل« فأمر بالعدل بين الجميع فلم يقل واذا حكمتم بين المسلمين بل قال: واذا حكمتم بين الناس ليشمل الجميع. وفي سبيل تحقيق العدالة بين الجميع نهي الرسول صلي الله عليه وسلم عن ظلم أحد من غير المسلمين فقال صلي الله عليه وسلم: »ألا من ظلم معاهدا أو انتقصه أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس أو كلفه ما لا طاقة له به فأنا حجيجه يوم القيامة« أي انه يكون خصما لمن يظلم معاهدا أو واحدا من غير المسلمين. رابعا: نصرة الاسلام ورسوله صلي الله عليه وسلم وذلك بالايمان بالله ربا وبالاسلام دينا وبسيدنا محمد صلي الله عليه وسلم نبيا ورسولا، وبنصرة هذا النبي وتأييده، وقد سبق الهجرة النبوية بيعة العقبة الأولي والثانية وتأكد أمر نصرة رسول الله صلي الله عليه وسلم من أهل المدينة، بل ان رب العزة سبحانه وتعالي قرر انه ناصره، وتحدث في القرآن الكريم عن الهجرة بأنها انتصار حيث قال الله تعالي: »إلا تنصروه فقد نصره الله« سورة التوبة (04). ومعلوم ان القرآن الكريم دستور إلهي خالد لا تنتهي توجيهاته، ولا تنقضي عجائبه وكل ما فيه من آيات ودروس وعبر وقصص ليست لأهل الزمان الماضي أو الحاضر وحدهم ولكنها بما تحمله من عبر وتوجيهات لأهل كل زمان ومكان عبر عصور التاريخ وإلي أن يرث الله الأرض وما عليها فقول الله تعالي: »إلا تنصروه فقد نصره الله« كما كانت موجهة لمن كانوا في الماضي، فهي موجهة أيضا لنا الآن في الحاضر، وموجهة لمن يكون في المستقبل، وهي تشير إلي أننا ان لم ننصر رسول الله صلي الله عليه وسلم نؤيده وننصر تعاليمه وتوجيهاته فإن الله سبحانه وتعالي ناصره لا محالة، لأن رب العزة سبحانه قال في كتابه العزيز: »والله يعصمك من الناس« المائدة (76).