ربما لم يعرف التاريخ بلدا أقيم فوق جماجم بشر من أعراق وجنسيات متنوعة مثلما يعرف الآن بالولاياتالمتحدةالأمريكية. وربما لم تقو صناعة سينما وطنية في العالم علي تصوير هذا التاريخ من العدوانية والتمييز والإبادة الجماعية للسكان الأصليين مثلما فعلت السينما الأمريكية علي طول امتداد تاريخها. عشرات العشرات من الأفلام السينمائية الأمريكية تناولت هذا التاريخ العنصري لهذه الدولة العظمي. أفلام تعكس صور التعصب والعنصرية والاضطهاد والقمع الممنهج بقوانين وممارسات اجتماعية متجذرة. ومن قبيل المبالغة - علي أي حال - أن نقول إن السينما الأمريكية قدمت مسحاً كاملاً وموضوعياً لمراحل التعصب المختلفة لتاريخ العنصرية الأمريكية منذ الحقبة الاستعمارية التوسعية في القرن السابع عشر وحتي القرن العشرين. لقد كرست السينما من خلال أنواعها المختلفة "الكاوبوي" "الويسترن" والجريمة. والتاريخ. صورة "الهندي الأحمر" أو "الهندي الأمريكي" مثلما صورت العربي والنازي والألماني والفيتنامي والايرلندي والروسي وذلك من خلال حبكات وأنساق فيلمية تتسم الوحشية. فالعنصرية في أمريكا ظاهرة تاريخية أصيلة وقد اتخذت أبعاداً مركبة وعنيفة مع توافد الهجرات الجماعية من أوروبا وآسيا وأمريكا الجنوبية وافريقيا. وتناولت أفلام الويست الأمريكية "الكاوبوي" المواطن الأمريكي القديم الذي سكن العالم الجديد قبل اكتشاف كولومبيس باعتباره وحش آدمي مع الاستعمار الأبيض للانجلو ساكسون البروتستاني "الواسب" (WASP) حرم هذا المواطن الأصلي من حقوق المواطنة وصور التعليم والتصويت وحق امتلاك الأرض وحق الدفاع عن نفسه بالإضافة إلي العزلة القصرية والتمييز. ولم تقتصر العنصرية ومشاعر الكراهية علي الهنود الأمريكيين الذين تمت إبادة معظمهم واستلاب أراضيهم. وإنما امتدت إلي المهاجرين من غير البروتستانت من أوربا وبصفة خاصة إزاء الايرلندي والبولندي والإيطالي فكل هؤلاء ظهرت نماذج منهم في فيلم "عصابات نيويورك" للمخرج مارتن سكورسيس هؤلاء واجهوا أساليب التشويه باعتبارهم جنس أدني من الأبيض الأمريكي الانجلوساكسون. أضف إليهم المهاجرين من الشرق الأوسط والعرب الذين واجهوا بدورهم التمييز البغيض في الولاياتالمتحدة وقد أظهرتهم السينما كشرير وغبي وكسلان وجشع خصوصاً بعد 11 سبتمبر 2011. وعاني اليهود من الاضطهاد أيضا قبل أن يتحولوا إلي لوبي نافذ وقوة اقتصادية ضاربة تهيمن علي الإعلام والاقتصاد خصوصاً بعد تأسيس الصهيونية السياسية في أواخر القرن التاسع عشر واصطناع وطن قومي لليهود. فلا يختلف تاريخ إقامته كثيراً عن تاريخ أمريكا. نفس العنصرية الوحشية واستلاب الأراضي عنوة وإزاحة الملاك الحقيقيين للأرض.. والخ والخ. ما نعرفه ونشاهده يومياً في الأرض المحتلة. احتلت العنصرية كموضوع الكثير من حبكات للأفلام وكلنا نتذكر فيلم "مولد أمة" 1915 الذي يحتل مكانة بارزة في تاريخ تطور السينما. الفيلم للمخرج الأمريكي دافيد وارد جريفيث "1875 - 1948" وهو عمل تاريخي ملحمي صامت يمتد لثلاث ساعات. ويدور حول علاقة عائلتين متصارعتين أمريكيتين إبان الحرب الأهلية الأمريكية وحقبة إعادة البناء علي مدي سنوات. إحداهما تنتمي إلي الشمال والثانية إلي الجنوب. ويصور الفيلم الصورة السلبية الوحشية للأمريكيين الأفارقة الذين قام بأدوارهم ممثلين بيض الوجوه مدهونة باللون الأسود. مثلما يصور في إطار إيجابي عصابات الكلوكلوكس كلان كقوة من الأبطال برغم عنصريتهم البغيضة. الفيلم واجه انتقادات كبيرة بسبب عنصريته المفرطة الأمر الذي دعا مخرجه إلي عمل فيلم عن "التسامح" (Intolerence) في العام التالي. بيرل هاربور وبعد معركة بيرل هاربور في ديسمبر 1941 اشتدت رياح العنصرية الأمريكية وعصفت بآلاف اليابانيين الأمريكيين الذين تم احتجازهم وعزلهم بعيداً في معسكرات بشرية. وانعكس هذا التيار العاصف في أفلام عديدة تضع الياباني في صورة كريهة وتصور الظروف غير الآدمية التي تعرضوا لها ومنها فيلم "الجليد يهبط علي سيدار" "1999" للمخرج سكوت هيكس عن رواية لدافيد جتيرسون بنفس الاسم.. وفيلم "تحت شمس حمراء دموية" "2014" عن صبي ياباني في الثالثة عشرة من عمره يواجه عدواً ضارياً في عام 1941 في هاواي بعد إطلاق القنبلة اليابانية علي بيرل هاربور والمأخوذ ايضا عن رواية بنفس الاسم لجراهام ساليزبيري إلي جانب كثير من الأفلام التي صورت المعاناة القاسية للياباني الأمريكي في "السجون" التي أعدتها أمريكا علي نحو ممنهج للمهاجرين اليابانيين في أمريكا. بعد معركة بيرل هاربور. والقائمة تطول تلك التي تضم الأفلام الأمريكية التي تناولت موضوع العنصرية. ورأيي المتواضع أن النسبة الأكبر من الإنتاج الأمريكي تكشف بشكل أو آخر عن نزعة عنصرية فائقة ذلك إذا كانت هذه النزعة تعني الاستقواء والشعور بالتميز بسبب اللون والعقيدة والقومية والجذور العرقية والتفوق الحضاري.. أليس هذا هو جوهر الصورة التي تصور الأبطال الأمريكيين الخارقين الجديرين بالبطولات الفائقة وغزو الفضاء والبحار والتصدي ايضا لأسلحة الطبيعة المدمرة كأنواع العواصف والفيضانات والبراكين والصواعق.. و... الخ. نوعية أفلام "الكوارث" وصراعات الحروب.. أو ليس هذا نفسه هو جوهر السياسة العنصرية التي تمارسها الولاياتالمتحدة وملامح الصورة كما جسدها الرئيس الأمريكي ترامب؟ لقد قام الأوربيون القراصنة البيض باختطاف الأفارقة من فوق أراضيهم واقتادوهم عنوة كعبيد بعيداً عن أوطانهم وأسرهم وأطفالهم وجردوهم من أسمائهم ومن "بطاقاتهم" الشخصية وأجبروهم علي اعتناق المسيحية تحت تعذيب السياط علي أيدي "اسيادهم" البيض واعتبار "العبودية" منهجاً رئيسياً لتعمير الأرض التي انتزعوها من السكان الأصليين وصيانتها. لقد تفرقت الآلاف من العائلات الأفريقية في أسواق النخاسة وتم شحنها بالسفن إلي الولايات الجنوبية الأمريكية والذين نجوا من عمليات البيع تعرضوا لقوانين الفصل العنصري ومن التعسف اللاإنساني الذي يجردهم من حق الحياة كمواطن يتمتع بحقوق متساوية. وبعد كفاح طويل علي مستوي الحقوق المدنية وتجريم "العبودية" والتمييز العنصري إلا أن التمييز لايزال سارياً في الممارسات العملية وتشهد بذلك الأحداث التي لم تعد خافية. ولا مخفية ولا مانعة لأن منطق الاستقواء والبلطجة السياسية سائد. وكثير من كبار المخرجين الأمريكيين قدموا أفلاماً مهمة جداً تقوم علي موضوع العنصرية وإن كان من منظور مستنير نسبياً مثل المخرج ستيفن سيلبرج في فيلمه "اللون القرمزي" "1985" بطولة أوبرا ونفري ووبي جولدبرج. والمأخوذ عن رواية بنفس الاسم حاصلة علي جائزة بوليتزر للكاتبة أليس وولكر. والفيلم يدور حول فتاة أمريكية من أصل أفريقي ويكشف عن المشكلات والمعاناة التي واجهتها في القرن العشرين ومنها العنف والعنصرية والجنس المحرم والاعتداء علي طفولتها والفقر وكيف استطاعت بمعاونة إمراتين أن تكتشف إنسانيتها وتدافع عنها. وهناك فيلم "امستاد" لنفس المخرج وهو عمل تاريخي درامي عن قصة واقعية تتناول قضية تجارة العبيد في افريقيا والعنوان يشير إلي اسم السفينة الاسبانية التي كانت تستخدم لنقل العبيد من هافانا إلي أمريكا عام 1839 والفيلم بطولة مورجان فريمان ودجيمون هوجو وانتوني هوبكثر. ويمكننا إضافة فيلم "قائمة شنولر" 1993 لنفس المخرج الذي طرح من خلاله العنصرية الوحشية التي مارسها النازيون علي اليهود المعتقلين داخل المعسكرات النازية يواجهون الموت والمرض والجوع بسبب ديانتهم وإنقاذ ما أمكن إنقاذه علي يد أوسكار شنولر وهو رجل صناعة ألماني قام بتشغيلهم في مصانعه.. الفيلم مأخوذ من رواية لكاتب استرالي "توماس كيللي" وحصل علي العديد من الجوائز. وتتميز بعض الأفلام التي عالجت موضوع العنصرية بالقوة الدرامية العاطفية والتشخيص الجيد للشخصيات الذين خاضوا الصراع القاسي ضد التيارات العنصرية التي تتخذ أشكالاً عديدة ومنها الحرب من أجل انتزاع الحرية من براثن مجتمع يؤمن القائمون عليه بالعبودية إيماناً كبيراً ويمارس أشكالاً شتي من التمييز ومنها الفيلم الرائع "12 سنة من العبودية" "2013" 12 years aslave وهو فيلم درامي تاريخي يتناول السيرة الذاتية لشخص أسود تم اختطافه في واشنطن العاصمة سنة 1841 وبيعه في سوق العبيد. وتم استعباده لمدة 12 سنة في إحدي المزارع في ولاية لويزيانا قبل أن يطلق سراحه الفيلم من إخراج ستيف ماكوين وسيناريو جون ريدلي ويجسد الشخصية الرئيسية شيواتال ايجيوفور. والفيلم حاصل علي عدة جوائز منها جائزة الجولدن جلوب لأفضل فيلم دراما إلي جانب 9 ترشيحات للأوسكار. وفيلم "جانجو الحر" Django un chained أو "جانجو طليقاً 2012 وهو فيلم من إخراج كونتين ترانتبنو وبطولة جيمي فوكس وليوناردو دي كابريو وحاصل علي أوسكار أفضل فيلم. ويعكس فيلم مالكولم أكس "1992" موضوع العنصرية من خلال السيرة الذاتية للزعيم الأمريكي الأسود مالكولم اكس وبطولة دنزل واشنطن الذي قدم شخصية مالكولم وجسد الأحداث الرئيسية التي تركت علامة بارزة في مسيرة هذا الرجل الذي اعتنق الإسلام بعد مشوار من المعاناة. المخرج والبطل من الأمريكان الأفارقة وصناع الفيلم المرموقين الذين أسهموا من خلال اشتغالهم في السينما بإيقاظ الوعي والشعور بالكرامة بأفلام من نوع "جلوري" أو "مجد" الذي يراه عشاق التاريخ واحداً من أفضل الأفلام المقتبسة من تجارب الأهلية الأمريكية. ويلقي الضوء علي أول وحدة عسكرية من أصول افريقية حاربت في جيش الاتحاد. كثيرة هي المنظمات والشبكات الخاصة بحقوق الإنسان. ورغم ذلك ينتشر التمييز في كل مظاهر الحياة ويمتد إلي كل الجماعات التي تعتبر ملونة وبالرغم من الآراء العديدة التي يتبناها كثيرون تغيرت علي امتداد الحقب الزمنية. يوجد قطاعات عريضة من الأمريكيين الآن تتبني وجهات نظر تنطوي علي تمييز ظاهر للعيان. يكفي تأمل صورة الرئيس التي بدأت تستخدم في الشرائط التسجيلية علي الإنترنت كتجسيد لقوي الشر في معركة "هرمجدون".