لست ناقدا سينمائيا؛ لكني أعرف جيّدا تلك الأفلام التي هزّتني أو أبكتني أو أضحكتني أو جعلتني أفكّر طويلا.. أعرفها وأحتفظ بها جميعا في الحافظة الزرقاء العتيقة التي تمزّقت أطرافها، وسوف أدعوك لتشاهدها معي لكنها أثمن من أن أقرضها! معظم هذه الأفلام قديم مجهول أو لا يُعرض الآن، لكنها تجارب ساحرة يكره المرء ألا يعرفها مَن يحب. نمر.. نمر.. نمر قالوا وقتها إن هذا هو معنى العنوان الغريب لفيلم الليلة، وهو -كما سنعرف- الاسم الكودي الياباني لعملية الهجوم على بيرل هاربور. عرفت من الإنترنت فيما بعد أن لفظة تورا هي خليط من لفظة Totsugeki ولفظة Raigeki اليابانية "تو - را". ومعناها هجمة طوربيد، لكن لها نفس نطق لفظة نمر اليابانية. في ذات الفترة كان هناك فيلم آخر لعنوانه نفس الرنين، هو "تك تك تك"، وهو فيلم لسيدني بواتييه عن مشكلات التفرقة العنصرية في ولايات الجنوب. رأيت فيلم "تورا تورا تورا" مع أبي في سينما الجمهورية بطنطا، وكنت وقتها في الصف الرابع الابتدائي. لن أنسى هذا اليوم؛ لأنه كان فيلما رائعا حتى بالنسبة إلى طفل لا يفهم ما يدور، لكنه منبهر جدا بمشاهد الطائرات، ولأن فيلم "دراكيولا أمير الظلام" كان يعرض معه في نفس الحفل، وكانت هذه بداية عشقي للرعب ولشركة "هامر" البريطانية، برغم أنني ظللت عدة أشهر عاجزا عن البقاء وحدي في أي مكان! دعونا من دراكيولا الآن لأننا نتكلم عن "تورا تورا تورا"، وقد طلب بعض الأصدقاء هنا أن أتكلم عنه، وراق لي هذا الاقتراح جدا. في العام 1970 قدّم المخرج الأمريكي ريتشارد فليشر هذا الفيلم الضخم. هذا المخرج المهم قدّم لنا من قبل أفلام: "20 ألف فرسخ تحت البحر" (20000 Leagues Under the Sea)، و"كونان المدمر" (Conan the Destroyer)، و"سويلنت جرين" (Soylent Green)، و"الرحلة العجيبة" (Fantastic Voyage) و"أشانتي" (Ashanti). كانت النيّة هي أن يخرج الياباني العظيم أكيرا كوروساوا الجزء الياباني من الفيلم، لكن هذا لم يتم، السبب هو أنهم قالوا له إن المخرج الكبير ديفيد لين هو من سيخرج الجزء الأمريكي فتحمّس بشدة، لما عرف أن هذا لن يتم حرص على أن يتخلى عن المشروع، وفي النهاية تم الاتفاق على أن يخرج توشيو ماسودا الأجزاء الدرامية اليابانية، ويخرج كنجي فوكازاكو الأجزاء التي تحوي مؤثرات خاصة أو حركة. احتاج الفيلم إلى تخطيط دام ثلاثة أعوام قبل بدء التصوير الذي استغرق ثمانية أشهر. السيناريو كتبه لاري فورستر مع اليابانيين هيديو أوجوني وريوز كيكوشيما عن عدة كتب سجّلت أحداث هذا اليوم الرهيب، ومنها كتاب "لادسلاس فارجو وجوردون برانج" من جامعة ميريلاند.
قدّم المخرج الأمريكي ريتشارد فليشر هذا الفيلم الضخم يحكي الفيلم عن يوم أسود في حياة أمريكا، هو السابع من ديسمبر عام 1941 عندما قامت اليابان بتدمير معظم الأسطول الأمريكي الغافل في ميناء بيرل هاربور، وبهذا دخلت أمريكا الحرب وقد كانت تحاول تحاشيها. الحقيقة أن هذا العمل كان غلطة حمقاء ارتكبتها اليابان، وقد قادت بعد هذا إلى تدمير هيروشيما وناجازاكي بالقنبلة النووية، قادت كذلك إلى دخول العملاق الأمريكي الحرب بكل قواه ما أدى إلى هزيمة المحور. يبدأ الفيلم بتولي الأدميرال الياباني ياماماتو قيادة الأسطول من الأدميرال يوشيدا. إن اليابان غاضبة على أمريكا لأنها تعترض طريق المواد الخام المتّجهة إلى اليابان في المحيط الهادي. وجود الأسطول الأمريكي قريبا في بيرل هاربور خطر جدا، ويصفونه بأنه سكين مصوّبة نحو عنق اليابان؛ لا حل سوى ضرب الأسطول الأمريكي ضربة إجهاضية بأي ثمن. في الوقت نفسه تنجح المخابرات الأمريكية في اعتراض الشفرات اليابانية، ويشعرون أن هناك شيئا سوف يحدث لكنهم لا يعرفون ما هو، يتابعون رسائل اليابان لسفارتها في أمريكا، إن المخابرات الأمريكية تترجم الرسائل بسرعة أسرع من السفارة اليابانية، آخر رسالة تطلب من السفير الأمريكي حرق مفاتيح الشفرة، وهي علامة مقلقة تنذر بدنو الحرب، لكن المخابرات تقدّر أن الأمر لا يتجاوز عمليات تخريب ضد الطائرات يقوم بها الجواسيس اليابانيون. الآن يُتم اليابانيون تنسيق الهجوم بطائراتهم الزيرو -التي تشعر أنها تعمل بالزمبلك- تحت قيادة جيندا، أما العملية كلها فتتم تحت قيادة متسو فوشيدا. أول علامة على الهجوم كانت محاولة غواصة يابانية التسلل إلى بيرل هاربور، وتنجح مدمرة أمريكية في إغراقها. كان التدريب شاقا ومعنويات اليابانيين عالية جدا، إذ غرقوا في جو من المزاح والنكات، وعند الفجر تنطلق الطائرات اليابانية واحدة تلو الأخرى من على حاملات الطائرات، قاصدة بيرل هاربور. هذه مشاهد رائعة الجمال ويصعب أن تنساها خصوصا مع موسيقى جيري جولدسميث الساحرة. الطائرات واحدة تلو الأخرى تندفع نحو الشفق، وقد شعر اليابانيون أن قرص الشمس الأحمر في الأفق هو فأل يبشّر بنجاحهم، سوف تشعر بالقشعريرة حتما وأنت ترى هذه اللقطات. لدهشة اليابانييين لا تعترض طريقهم طائرة أمريكية واحدة، ويدوي النداء عبر اللاسلكي: - "تورا.. تورا.. تورا". ونرى مشهدا ساخرا للأمريكان في طابور الصباح لا يشعرون بشيء، يسمعون الطائرات اليابانية فيحسبونها طائرات أمريكية سمجة تحلّق على ارتفاع منخفض، لم يستوعبوا أن هذا هجوم إلا عندما انهمرت عليهم طلقات الفيكرز والقنابل، الحقيقة أن هناك أوجه تشابه عديدة مع ما حصل لنا في يونيو 1967. شاهد بدء الهجوم إضغط لمشاهدة الفيديو: الطائرات الأمريكية متراصة في المطارات وفوق حاملات الطائرات، والجناح يلمس الجناح.. بط جالس ينتظر الذبح، وسرعان ما يتحول الميناء الجميل إلى جهنم، شعلة نيران. يحاول البحارة أن ينقذوا الموقف، لكن الهجوم الياباني كاسح. شاهد الغارة إضغط لمشاهدة الفيديو: تمّ الهجوم على موجتين، لكن اليابانيين فضّلوا عدم إرسال الموجة الثالثة خشية أن يجد الأمريكان حاملات طائراتهم ويدمروها. الحقيقة أن المنتج داريل زانوك في شركة "فوكس للقرن العشرين"، فعل كل ما بوسعه كي يجعل المشاهد شبه حقيقية. والدقة التاريخية للفيلم عالية جدا، حتى أنهم استعانوا بقائد الضربة الجوية جيندا كخبير فني للفيلم. التصوير كان خطرا في أوقات عديدة، هذه الطائرة من طراز P-140 انزلقت نحو مجموعة من ممثلي الحركات الخطرة وكادت تقتلهم فعلا، خصوصا أنها محمّلة بالمتفجرات. شاهد هذه اللقطة إضغط لمشاهدة الفيديو: تم النصر وتدمير الأسطول الأمريكي بضربة ساحقة، لكن الأدميرال ياماماتو لا يبدو متحمسا، يقول للرجال في نهاية الفيلم: - "لقد أثرنا غضب العملاق النائم". شاع أنه قال هذه العبارة حتى أنها استُعملت في أفلام كثيرة بعد هذا، لكن الحقيقة هي أنه لم يقلها قط، كاتب السيناريو هو من قالها، لكن هذا كان رأي ياماماتو فعلا. وفيما بعد الحرب زار الولاياتالمتحدة فقال: - "عندما أرى آبار النفط وحقول القمح المترامية في أمريكا، أدرك أننا لم نحسن صنعا". فيما بعد سوف يستعيد الأمريكان سيطرتهم على المحيط الهادي مع موقعة ميدواي، وهذا عنوان فيلم آخر تالٍ لهذا. في البداية لم يلقَ الفيلم نجاحا كبيرا في الولاياتالمتحدة، لكنه نجح في اليابان جدا، مع الوقت بدأ الجمهور يدرك قوة هذا الفيلم، وحاليا هو من كلاسّيات السينما التي لا يجادل فيها أحد. فاز الفيلم بأوسكار أفضل مؤثرات خاصة، لكنه رشح لأوسكار أفضل تصوير وأفضل إخراج فني، وأفضل مونتاج، وأفضل صوت. استعمل فيلم "بيرل هاربور 2001" لقطات عديدة من هذا الفيلم، وعموما اعتمد على مؤثرات الكمبيوتر بغزارة ولم يكن عملا موفّقا جدا. شاهد تريلر فيلم "تورا تورا تورا" إضغط لمشاهدة الفيديو: