المخابرات الأمريكية، على الرغم من شهرتها، ليست مخابرات عريقة، مثل المخابرات البريطانية أو الروسية، وحتى الحرب العالمية الثانية، لم يكن هناك جهاز مخابرات أمريكى بالمعنى المعروف الآن، بل كانت فقط مكتب الخدمات الاستراتيجية، وتطوًَّرت فيما بعد إلى جهاز مخابرات استراتيجية محدود، ولقد انبهر الأمريكيون بقوة ومهارة جهاز المخابرات البريطانى، الذى خطًَّط ونفذ عدة عمليات ناجحة، خلال الحرب العالمية الثانية، كان لها الكثير من الفضل، فى انتصار الحلفاء فى الحرب، وانبهروا أكثر بعملية مخابرات من النوع ذى النفس الطويل، قام بها جهاز المخابرات البريطانى؛ لدفع (أمريكا) إلى خوض الحرب، فى مواجهة دول المحور، على الرغم من أن تلك العملية قد تسبًَّبت فى تلك الضربة الموجعة، التى سددًَّها الطيران اليابانى لميناء (بيرل هاربور) الامريكى، والتى كانت سبباً رئيسياً فى دخول (أمريكا) الحرب ضمن الحلفاء ... ففى بدايات الحرب، رفضت (أمريكا) بشدة التورًَّط فيها، واعتبرتها شأناً أوروبياً بحتاً، حتى عندما بدأ (هتلر) يمد قواته إلى دول (آسيا) و(أفريقيا)، ومع توالى الخسائر على الجانب البريطانى، أدرك (تشرشل) رئيس وزراء (بريطانيا) آنذاك، أن الامل الوحيد فى ربح الحرب، مع الانتصارات المتوالية للجيش النازى، هى فى دخول (أمريكا) ميدان المعركة وساحة القتال، ليس بما توردًَّه للجانب البريطانى من السلاح فحسب، ولكن بقواتها كاملة ... وهنا، ولدفع (أمريكا) إلى دخول حرب، ترى أنها بعيدة عن أراضيها، كان السبيل الوحيد هو أن تصل الحرب إلى الأراضى الأمريكية مباشرة ... ومن هذا المنطلق، بدأت أغرب عملية تجسًَّس، بين الحلفاء بعضهم وبعض ... فى البداية سرًَّب رجال المخابرات البريطانية إحدى شفراتهم الجديدة إلى اليابانيين، عبر أحد جواسيسهم، والذى تم كشفه، دون إلقاء القبض عليه؛ لاستغلاله فى توصيل ما يريدون من معلومات إلى العدو، ثم - وعبر تلك الشفرة - بدأت المخابرات البريطانية فى تبادل الرسائل مع قطع من أسطولها، والتى تقع فى مجال، يمكن لأجهزة اللاسلكى اليابانية رصده واعتراضه، وبدأ اليابانيون فى التقاط تلك الرسائل، وفك رموزها، وهم يتصوًَّرون أن البريطانيين يجهلون حصولهم على تلك الشفرة، التى يتم تبادل الرسائل بها ... ولكى تنجح اللعبة، كانت مجموعة الرسائل، التى تم تبادلها فى البداية، تحمل معلومات صحيحة، سمحت لليابانيين بتحقيق انتصارات محدودة ومحسوبة، ثم جاء دور اللعبة الأساسية... مجموعة من الرسائل، تم تبادلها، بوساطة الشفرة نفسها، تتحدًَّث عن عزم الأسطول الامريكى توجيه ضربة عنيفة للأسطول اليابانى، بالقرب من سواحل اليابان، ولم ينس البريطانيون تأكيد رفضهم المشاركة فى تلك الضربة المزعومة القادمة ... ولما كانت تلك المعلومة شديدة الخطورة، بالنسبة لليابانيين، وجاءت من مصدر يتصوًَّرون أنهم يسيطرون عليه مائة فى المائة، فقد بدأوا على الفور فى وضع خطة لمواجهة هذا، وكان من الطبيعى أن تعتمد خطتهم على توجيه ضربة وقائية للأسطول الأمريكى فى (بيرل هاربور)، فى نفس الوقت الذى لم يكن الأمريكيون يدركون فيه ما يدور خلف ظهورهم، من حلفائهم قبل أعدائهم... وبناء على أوامر المخابرات اليابانية، نشط جواسيسها؛ لجمع كافة المعلومات عن الأسطول الامريكى فى (بيرل هاربور)، ورصدوا قطع الاسطول، ومواقعها، ولكن ما اخطأوا فيه هو انهم تصوًَّروا أن ما يدور على سطح سفن الأسطول الأمريكى هو استعداد للحرب، فى حين لم يكن فى الواقع سوى أعمال صيانة وتجهيزات معتادة، للأسطول الذى كان يعانى من نوع من الإهمال البيروقراطى؛ نظراً للاستبعاد التام لفكرة انتقال الحرب عبر المحيط، من (أوروبا) إلى (أمريكا)... وفى السابع من ديسمبر عام 1941م، شن اليابانيون ما اطلقوا عليه اسم الخطة (زد) أو(z)، على الأسطول الامريكى الغافل فى (بيرل هاربور)، وكان هجوماً مباغتاً، حتى أن الامريكيين لم يستطيعوا صده أو مقاومته، إلا بأقل القليل، وللتدليل على نجاحه، يكفى أن نعلم أنه قد تسبًَّب فى إغراق أربع بوارج أمريكية، وتدمير أربع أخرى، بالإضافة إلى تدمير ثلاثة طرادات، وثلاث مدمرات، و زارعة ألغام بحرية، إلى جانب مائة وثمان وثمانين طائرة حربية، تم تدميرها على مهابط الطائرات، قبل أن تنجح فى الإقلاع وصد الهجوم، إلا فيما ندر... ولقد راح ضحية هذا الهجوم 2402 قتيلاً، و1282 جريحاً ومصاباً، فى حين لم يخسر اليابانيون سوى 29 طائرة، وأربع غواصات قزمة، و65 جندياً فحسب ... ولم يدرك الامريكيون خطة المخابرات البريطانية فى حينها، وإنما نجحت الخطة تماماً، فى دفع (أمريكا) لإعلان الحرب، وخوضها بكل قواتها وعتادها وعدتها ... ولم يدرك الأمريكيون هذا إلا بعد سنوات من الحرب، ولم تنشر التفاصيل إلا مع نشر الوثائق البريطانية، بعد نصف قرن من انتهاء الحرب العالمية الثانية، ولكنهم حوًَّلوا مكتب الخدمات الاستراتيجية، والذى نشأ بأمر الرئيس الأمريكى الأسبق (هارى ترومان)، إلى وكالة المخابرات المركزية الامريكية (CIA)، بقرار من الرئيس (فرانكلين روزفلت)، تحت ضغط المخابرات العسكرية، ومكتب المباحث الفيدرالية، كوسيلة لمواكبة أجهزة التجسًَّس ومقاومة التجسًَّس، وجمع المعلومات العسكرية والاقتصادية والمدنية، والتى أثبتت نجاحاتها الكبيرة، فى الحرب العالمية الثانية ... وعلى الرغم من أن (آلان دالاس) هو أوًَّل من أسس الجاسوسية الامريكية، إلا أن الرئيس (ترومان) قام بإبعاده عن هذا العمل، نتيجة لبعض الاخطاء فى البداية، ليحل محله الجنرال (والتر سميث)، إلا أن خبرة (دالاس) الكبيرة فى هذا المضمار، وعبقريته فى التعامل معه، جعلا الرئيس (إيزنهاور) يعيده إلى منصبه، مع توليه الرياسة، حيث جاء مدعوماً من شقيقه (جون فوستر دالاس)، وزير الخارجية الأمريكى آنذاك، ولكن عقب أزمة ما عرف باسم (خليج الخنازير)، والتى نشبت بين الامريكيين والسوفيت؛ بسبب محاولة الامريكيين غزو (كوبا)، قام الرئيس (جون ف كيندى)، بتنحية (آلان دالاس) من منصبه فى رياسة وكالة المخابرات الامريكية، وعيًَّن بدلاً منه الجنرال (جون مكين)، عام 1963م، و ... مازال الحديث عن المخابرات الامريكية مستمراً.