لعب الأمريكي »دونوفان« مدير مكتب الخدمات الاستراتيجية بورقة كارثة ما حدث في »بيرل هاربور« خلال الحرب العالمية الثانية لإقناع خصومه بأهمية الإبقاء علي نشاط مكتبه وتطويره ودعمه بكل الوسائل والإمكانات مؤكداً أن تدمير الأسطول الأمريكي في المحيط الهادي بأيدي اليابانيين لم يكن ليحدث لولا سوء الاتصالات وتخبط أجهزة المعلومات. فوزارة الخارجية والجيش والبحرية كانت لديها معلومات كافية كفيلة بإحباط الهجوم الياباني، وهو مالم يتحقق لعدم تعاون هذه الأجهزة الثلاثة فيما بينها. وحتي لا تتعرض البلاد لكارثة مماثلة، يجب علي إدارة الرئيس »ترومان« أن تسارع بإنشاء جهاز استخباري مركزي لإحباط أي هجوم متوقع من الاتحاد السوفيتي. التحذير كان مخيفاً آنذاك. ففي زمن استخدام الأسلحة الذرية عابرة المحيطات، جواً وبحراً، فإن الوقاية منها وإحباطها والتصدي لها يحتاج بداية إلي معلومات دقيقة ومسبقة عن هذه المخططات. وتأييداً لما يردده »دونوفان« كتب المحلل العسكري لصحيفة نيويورك تايمز في فبراير1946 مقالاً شهيراً انتهي فيه إلي أن المعلومات الاستخبارية تمثل خط الدفاع الأول للبلاد، وهو ما قدم دعماً قوياً لمدير مكتب الخدمات الاستراتيجية OSS الذي يريد تغييره بالكامل وإنشاء ما عُرف فيما بعد ب: وكالة المخابرات المركزية CIA . المشكلة كانت في أن الرئيس الأمريكي هاري ترومان الذي خلف الرئيس روزفلت لم يكن يحب دونوفان ولا يوافق علي أسلوب إدارته لمكتب ال »OSS« لكن الأخطار التي تهدد البلاد أجبرت ترومان علي البحث عن حل وسط يجمع بين كبح جماح دونوفان، من جهة، وتوفير مركزية تلقي المعلومات من جهة أخري. أصدر ترومان قراراً بتصفية ال OSS الجامحة بلا رقيب ولا حسيب، وقراراً ثانياً بإنشاء جهاز مركزي للمعلومات: مجموعة المخابرات المركزية CIG تحت إشراف لجنة تضم: ممثلاً للرئيس الأمريكي، ووزير الخارجية، وممثلين للجيش والبحرية. الجهاز الجديد بدأ متواضعاً، لكن الأحداث الدولية سرعان ما فرضت خطورتها من وجهة النظر الأمريكية. فالاتحاد السوفيتي لم يلتزم في رأي الإدارة الأمريكية ببنود اتفاقه مع حلفاء الأمس بعد نهاية الحرب. قيل أن جوزيف ستالين حاكم الاتحاد السوفيتي دأب علي فرض نظامه داخل كل دول أوروبا الشرقية. كما قدم الدعم والمساعدة للشيوعيين في اليونان. ولم يسحب قواته من إيران حتي بداية عام 1946 كما سبق و وعد. الرئيس ترومان أعلن معارضته الشديدة لما اتهم الاتحاد السوفيتي به. وعندما مارس الاتحاد السوفيتي ضغوطاً علي تركيا حليفة الغرب أعطي ترومان أذنه لنصيحة أحد أبرز الدبلوماسيين الأمريكيين آنذاك جورج كينان وتهدف إلي »منع أي تقدم للاتحاد السوفيتي علي مستوي العالم« من خلال ما عٌرف بتعبير: سياسة الاحتواء. أمر ترومان بإرسال وحدات بحرية ضخمة إلي مياه البحر المتوسط استعراضاً للقوة وحماية لتركيا. كما أطلق برنامجاً طموحاً، غير مسبوق، لتقديم المساعدات الاقتصادية للقارة الأوروبية تحت اسم: مشروع مارشال. وبالنسبة لآلة الدفاع والحرب الأمريكية خطط ترومان لإحداث طفرة هائلة لامكاناتها تتناسب مع ضخامة الأخطار التي يتوقعها من الاتحاد السوفيتي. وبالطبع.. حظي جهاز المخابرات الأمريكية بنصيبه من الدعم، فشهد عام 1947 ميلاد ما اشتهر فيما بعد باسم: وكالة المخابرات المركزية CIA التي توسعت أنشطتها وعملياتها بحيث لم تعد قانعة فقط بتنقيبها عن المعلومات ورفعها إلي كبار المسئولين ، وإنما انتزعت لنفسها حق استخدامها ماتحصل عليه من معلومات للقيام بعمليات خاصة وسرية لوأد ما تري أنه يهدد المصالح الأمريكية في أي مكان من قارات الدنيا الخمس! .. وللحديث بقية.