تقنية التجسّس جزء مهم للغاية، ويكاد يكون الجزء الأهم، بعد الجاسوس البشرى، فى عالم الجاسوسية والمخابرات، وهو يتطوًَّر مع تطوًَّر الزمن والتكنولوجيا، ولابد له من أن يسبق التكنولوجيا المتاحة للعامة، وحتى للخاصة، بخطوتين على الأقل، وأن يسبق ما لدى العدو من تقنية، ولو بخطوة ... فقديماً كانت تقنية التجسّس ببساطة عصوره الأولى، ففى زمن الفراعنة، كانوا يحلقون شعر عبد ما، ويوشمون الخطابات والأوامر السرية على رأسه، ويتركون شعره ينمو من جديد، ثم يرسلونه بالأوامر إلى القادة، الذين يقومون بحلاقة شعره، ويقرأون الرسالة الموشومة على رأسه، ثم يقتلونه؛ لمنع الرسالة من الوصول إلى العدو، تحت أية ظروف .. وكانت تلك التقنية البسيطة ناجحة تماماً فى زمنها، حتى تم كشف أمرها، فلم يعد استخدامها ممكناً... وفى زمن الرومان، ابتكروا العصا المجوفة، التى توضع داخلها الرسالة، المكتوبة على رقعة من الجلد، والتى تحوى بيانات ومعلومات مهمة، وأحياناً دون أن يدرك حاملها هذا، وإنما يدرك فقط أنه عليه تسليمها لجهة بعينها، أو شخص بعينه... أما فى الحرب العالمية الأولى، فقد بدأت الأمور تتطوًَّر، وخاصة مع وجود آلات التصوير، التى كان يتم إخفاؤها فى حقائب السفر، أو جدران المنازل... ثم تطوًَّرت الأمور فى الحرب العالمية الثانية، التى ظهر فيها الميكروفيلم إلى الوجود، بحجمه الصغير الدقيق، مع آلات التصوير الصغيرة، والتى كانت تحفة التجسًَّس آنذاك، من حيث القدرة على إخفائها فى علب السجائر والقدّاحات، وتصوير المنشآت السرية بوساطتها، على ميكروفيلم دقيق، يمكن إخفاؤه فى زر معطف، أو كعب حذاء، أو بطانة حقيبة يد صغيرة، أو على ظهر طابع بريد، كما حدث فى قضية (سوزانا) ... وبعدها ظهر التصوير الرقمى، الذى حوًَّل الميكروفيلم إلى سلعة شعبية، بحيث صار من الممكن الآن، لأى مستهلك عادى، شراء أفلام وكاميرات الميكروفيلم، من متاجر التصوير الفوتوجرافى، بأسعار زهيدة للغاية ... وعندما ظهر التصوير الرقمى فى البداية، لم يكن متاحاً للأشخاص العاديين، وإنما كان تقنية استخباراتية فريدة، يستخدمها الجواسيس ورجال المخابرات فحسب، قبل أن تخرج للعامة، بدقة وضوح محدودة، سرعان ما تطوًَّرت، لتبلغ حداً مدهشاً، يعلم الله سبحانه وتعالى وحده كم ستبلغ مستقبلاً... والحديث عن استخدامات التصوير فى عالم المخابرات والجاسوسية وجمع المعلومات، يقود إلى الحديث عن التصوير الجوى؛ لدراسة أرض المعركة، والذى بدأ استخدامه خلال الحرب العالمية الثانية، من خلال آلات تصوير، مثبتة أسفل طائرات، لديها القدرة على التحليق عالياً، وعلى التقاط الصور فى سرعة كبيرة، تتناسب وسرعة الطائرة نفسها، كما فعلت (اليابان)، قبيل هجومها على ميناء (بيرل هاربور) الأمريكى، فى بدايات الحرب العالمية الثانية، حيث التقطت طائراتها صور الأسطول الأمريكى هناك، وحدًَّدت أهدافها، قبل بدء الهجوم.... وفى ذلك الزمن، لم تكن السرعات العالية لآلات التصوير وعدساتها متاحة للعامة، بل ولم يكن فلاش التصوير، المعروف حالياً، متاحاً على الإطلاق، بل كانت آلات التصوير تستخدم مصابيح خاصة، تنفجر مع كل لقطة، ويتحتًَّم على المصوًَّر المحترف حمل كمية كبيرة منها، لاستخدامها مع كل صورة، ثم جاء الأمريكى (هارولد ادجرتون)، فاخترع الفلاش الألكترونى، الذى يمكن أن تتكًَّرر إضاءة مصباحه، لعدد كبير من اللقطات، دون الحاجة إلى تغييره، وابتكر أيضاً نظاماً صوتياً، يطلق إضاءة الفلاش، مع أى صوت مرتفع، وأمكنه بهذا تصوير رصاصة، وهى تشق ورقة من أوراق اللعب (الكوتشينة)، قبل أن تمضى فى طريقها ... ومع ظهور الانترنت، الذى كان فى البداية وسيلة عسكرية، محدودة الاتصال، وغير متاحة للعامة، ثم صار وسيلة تواصل اجتماعى متاحة للجميع، تطوًَّر فن إرسال الصور والمعلومات، وصار بإمكان الجاسوس إرسال ما لديه، وقتما يريدً، وإلى حيث يريد، عبر شبكة الانترنت.... ولكن، ولأن تقنية التجسًَّس ليست حكراً على جهاز مخابرات دون الآخر، فقد بدأت حرب ألكترونية رقمية جديدة، فى عالم الجاسوسية، مما دفع البعض إلى ابتكار تقنية تعرف باسم (ستيجنوجرافى)، أو الصورة المختفية داخل صورة أخرى، بحيث لا يمكن رصدها، إلا لو تمت معرفة الصورة الأم بالتحديد، وفحصها عبر تقنية أخرى مضادة، ولكن الصورة الرقمية لها خصائص تختلف عن الصورة الفيلمية العادية، من حيث إنها فى الأساس مجموعة من الأرقام والمعادلات الرياضية الرقمية، التى تضع صورة على الشاشة، لذا فمن الممكن دس صورة أخرى، هى أيضاً عبارة عن معادلات رقمية، داخل الصورة الأم، كما يمكن تشفير معادلات الصورة الجنينية، داخل معادلات الصورة الأم، بحيث تصعب رؤيتها، حتى ولو تم إنجابها، دون معرفة الشفرة الأصلية لها، مما أدى بالتالى إلى السعى لابتكار برامج شديدة التطوًَّر؛ للتعامل مع الشفرات المختلفة، ومحاولة حلًَّها وفك رموزها، ولكن حرب التكنولوجيا الحديثة، جعلت الأطراف الأخرى تبتكر البرامج المضادة، التى تصنع شفرات شديدة التعقيد، بحيث يستغرق فك رموزها وقتاً طويلاً، يكفى لكى تؤدى الشفرة دورها، وتنقل معلومات، تتم الاستفادة بها، قبل التوًَّصل إلى فك الشفرة الأولى، فى نفس الوقت الذى تكون فيه البرامج الرقمية الدقيقة، قد ابتكرت شفرة ثانية، وهكذا ... وفى عالم المخابرات والجاسوسية الآن، برامج رقمية شديدة التطوًَّر، لديها القدرة على ابتكار شفرة خاصة لكل مرة إرسال، بحيث لا تتكّرر الشفرة الواحدة مرتين، فيصير التعامل مع الصور الجنينية عسيراً، ولكن هناك برامج أخرى، تسعى لإيجاد نظام موًَّحد، يمكنه كشف جميع الشفرات، على نحو واحد ... وهنا يعيدنا ذلك الجزء من تقنية التجسّس إلى الجاسوس البشرى، الذى لو امكنه نقل برنامج التشفير الرقمى إلى الطرف الآخر، فسيحسم حرب التكنولوجيا التشفيرية بخبطة واحدة ... والتصوير السرى لم يتوقّف عند التقاط صور الأشياء، التى يمكن رؤيتها بالعين المجرّدة، وإنما تطوّرت تقنية التصوير، فى هذا العالم الممتلئ بالغموض والأسرار، وحوت تقنيات أخرى، تطوّرت أيضاً مع الزمن، ولها حديث آخر بإذن الله.