فى عام 1945 وقبل أشهر قليلة من انتهاء الحرب العالمية الثانية، وبأوامر مباشرة من الرئيس الأمريكى آنذاك «هارى ترومان»، كلفت السفينة الحربية «إنديانا بوليس» وطاقمها بمهمة انتحارية، وكانت تلك المهمة تتلخص فى نقل القنبلتين الذريتين، إلى قاعدة أمريكية ببحر الفلبين، تجهيزا لإلقائها على اليابان تحديدا مدينتى «هيروشيما ونجازاكي» وتحركت السفينة دون أى حماية ضد غواصات العدو اليابانى. هجوم رهيب استطاعت «إنديانا بوليس» الوصول إلى القاعدة الأمريكية، وتسليم القنبلتين الذريتين بنجاح وأمان، وبدأت رحلة العودة، ورغم إلحاح قبطانها فى الحصول على حراسة أو حماية، من الغواصات اليابانية قوبل طلبه بالرفض، وبدأت رحلة العودة دون أى متابعة أو حماية عسكرية أمريكية من الغواصات اليابانية، وفى يوم 29 يوليو وقبل منتصف الليل، وقعت الكارثة حيث تعرضت السفينة للهجوم من قبل إحدى الغواصات اليابانية بقيادة ضابط يابانى كان قد شارك من قبل فى الهجوم على ميناء «بيرل هاربور» فى 7 ديسمبر 1941، حيث قام بالاقتراب حوالى 1500 متر وقام بإطلاق6 طوربيدات وجميعها أصابت الهدف وهو «إنديانا بوليس» وما هى إلا دقائق حتى كانت السفينة قد غرقت تحت الماء، وطاقمها بالكامل ما بين غريق وجريح ومن ينتظر الإغاثة. مر وقت طويل خلاله تعرض الطاقم لهجوم عنيف متلاحق من أسماك القرش التى افترست 400 مجند من طاقم السفينة، ومن المثير للدهشة تلقى القيادة الأمريكية رسالة بتاريخ 30 يوليو موجهة من قائد الغواصة اليابانى المسئول عن إغراق «إنديانا بوليس»، وفيها يصف نوع السفينة الغارقة وإحداثيات موقعها بالضبط. أخيرا وبعد 5 أيام من غرق السفينة وصلت فرق الإنقاذ، على الرغم من إرسال 3 رسائل استغاثة ورسالة رابعة أخرى من قائد الغواصة اليابانية، ولم يتبق إلا 318 عسكريًا على قيد الحياة، حيث قتلت أسماك القرش بقية طاقم السفينة أو تعرضوا للغرق. الكارثة الأكبر كان قائد السفينة «إنديانا بوليس» القبطان» «تشارلز مكفاي» الضابط الوحيد على الإطلاق فى بحرية الولاياتالمتحدةالأمريكية الذى يحاكم على فقدان سفينة أثناء الحرب، ولم تبرئ ساحته إلا فى عهد الرئيس الأمريكى «بيل كلينتون». ومن المثير للدهشة أيضا أن الهجوم لو كان قد وقع قبل ثلاثة أيام من تاريخ إغراق السفينة، لكانت «إنديانا بوليس» قد غرقت وعلى متنها القنبلتان الذريتان، والتى نقلتها إلى جزيرة «تينيان» شمال شرق جوام تحديدا غرب المحيط الهادى لكى يقوم العلماء بتجميعها. تعد كارثة غرق «إنديانا بوليس» ثانى أكبر كارثة فى تاريخ البحرية الأمريكية بعد كارثة بيرل هاربور، وتخليدا للدور الذى لعبته وطاقمها فى الحرب العالمية الثانية وانتهائها بانتصار الولاياتالمتحدةالأمريكية ومعسكر الحلفاء، قامت هوليوود، بإنتاج فيلم بعنوان «إنديانا بوليس.. رجال الشجاعة» للمخرج ماريو فان بيبلس، قصة وسيناريو وحوار: كام كانون، ريتشارد راوندا وديل كاسترو، أما البطولة فكانت للنجم نيكولاس كيدج، وكل من: جونى واكتور، إيميلى مارى بالمر، إيميلى تينانت، كودى والكر، وبراين بريسلى. الفيلم الذى بدأ عرضه فى دور السينما المصرية مطلع الشهر الجاري، يضاف إلى قائمة الأفلام الأمريكية المبنية على قصص حقيقية، وكان آخرها فيلم «سولي» للممثل توم هانكس والإخراج لكلينت إيستوود، والذى تناول قصة الأحداث الاستثنائية فى 15 يناير 2009، التى شهدت هبوط الطيار تشيلسى سولينبرجر «سولي» فى نهر هدسون بعدما دمر سرب من الطيور محركيها، ونجاحه فى إنقاذ أرواح جميع من كانوا على متن الطائرة من الركاب والطاقم، إلا أنه تعرض لمحاكمة من قبل الشركة مالكة الطائرة وهيئة الملاحة الجوية الأمريكية. إدانة للقيادات العسكرية الفيلمان يتعرضان بالنقد الذى يصل لإدانة السلطات الأمريكية التى تسعى فقط لتحقيق أهدافها ومخططاتها الاستراتيجية، سواء كانت اقتصادية مالية كما فى حالة «سولي»، أو عسكرية حربية كما فى فيلم «إنديانا بوليس»، ولو كان تحقيق هذه الأهداف على حساب المئات من الأرواح الأمريكية نفسها لا أرواح أعدائها. يبدأ الفيلم بمشهد لاجتماع القيادة العسكرية الأمريكية، وهى تستعرض هزيمة بيرل هاربور، ويدور حوار بين القيادات: «اليابانيون فجروا بيرل هاربور، لا يمكننا قلب الطاولة عليهم، أعنى هناك الكثير من المتخاذلين روجينا وكيناوا، وليس هناك غزو أرضى لأمريكا، الحرب تكاد تنتهي، أمريكا والرئيس يريدان أن تنتهى هذه الحرب وبسرعة». تطرح المناقشات مسألة استخدام القنبلة الذرية لإنهاء الحرب، وذلك من خلال إرسالها على متن سفينة حربية بدون أى مرافقة من قطع الأسطول البحرية الأخرى حتى لا يكتشفها اليابانيون، وينتهى الاجتماع بقرار إرسال السفينة «يو أس أس إنديانا بوليس»، بقيادة القبطان تشارلز مكفاي. ولعب دوره ببراعة منقطعة النظير النجم «نيكولاس كيدج»، وعندما تنتقل الكاميرا على وجه مكفاى تعرض رؤيته للحرب وهو يتحدث لصورة زوجته ليكشف للمتفرج مدى قدرة اليابانيين العسكرية وتصميمهم الانتحارى لكسب الحرب. مشاعر إنسانية متناقضة على الجانب الآخر نرى قائد الغواصة اليابانية تتنازعه مشاعر إنسانية، متناقضة بين الواجب وألمه من دفع الشباب اليافع للقيام بمهمات انتحارية ضد البحرية الأمريكية، خاصة أنه الوحيد تقريبا الذى ظل على قيد الحياة لا أسرة له، بينما من لديهم الأولاد يرحلون عنهم، وهنا تتنقل الكاميرا متقاطعة بين ملامح قائد الغواصة وضباطه حيث كان أحدهم يلقى نظرة أخيرة على صورة ابنه وزوجته، بينما شاب آخر مكلف بقيادة طوربيد موجه لتفجيره فى السفينة الأمريكية، وقسمات وجهه غارقة فى العرق مرتعشة ليس جبنًا أو خوفًا بقدر ما هو وجع لحرمانه ممن يحب. تبدأ رحلة «إنديانا بوليس» لتسليم رسائل الإبادة والتى قتلت حوالى 140 ألف إنسان فى هيروشيما، 80 ألف فى نجازاكى بحلول نهاية عام 1945، حيث مات ما يقرب من نصف هذا الرقم فى نفس اليوم الذى تمت فيه التفجيرات، وكانت معظم الوفيات من المدنيين فى المدينتين. وفى رسالة نقدية أخرى وإن كانت من الماضى إلا أن ظلالها ما زالت باقية على الحاضر اليومى المعاش فيما يخص الأفروأمريكيين، نجد أن المجندين السود أو الملونين عامة لا يقومون إلا بأعمال خدمية متواضعة لا تختلف عن التى يقومون بها فى الحياة المدنية، سواء أعمال الطهى أو التنظيف على متن السفينة، وضح هذا فى أكثر من مشهد فى الفيلم، أحدها والطاهى يبصق فى الكعكة التى يقدمها للقبطان، أو المشاجرة التى نشبت قبل إقلاع السفينة بقليل بين المجندين البيض السود تنتهى بحبس الاثنين، وإن كان الأفروأمريكى غامر بحياته لإنقاذ المجند الأبيض العنصرى أثناء غرق السفينة وبالفعل ينجح، وتتحول هذه العداوة والكراهية لتقارب إنسانى خالٍ من الأحقاد والتمييز خاصة فى لحظات مواجهة الموت وتفاديه. أدان الشريط السينمائى القيادة العامة للجيش الأمريكى الذى تجاهل إغاثات السفينة أثناء غرقها، وحتى الناجين منهم لم تكتب لهم الحياة سوى صدفة، عندما كانت إحدى طائرات الاستطلاع الجوى فى جولة روتينية، فيراهم قائد الطائرة ويرسل للقيادة بوجودهم، لكنها ترفض طلب نزوله إليهم فى المحيط وتأمره بالرجوع، إلا أنه يخالف الأوامر ويهبط فى الماء وينتشلهم، وكم كان بديعا مشهد الناجين والطيار يجلسهم فوق جناح الطائرة بعد خمسة أيام محاصرين بالموت جوعًا وعطشًا وافتراس أسماك القرش لزملائهم. المعدن الحقيقي للبشر رغم أن الفيلم يحمل إدانة واضحة لا مواربة فيها لقيادات الجيش التى لا تقيم وزنًا لرجاله، وهو ثانى فيلم يطرح هذا العام يناقش هذه القضية، حيث طرح فى شهر مايو الماضى فيلم «جنود بنغازى السريين» وتناول تخلى القيادات السياسية والعسكرية الأمريكية عن السفير الأمريكى فى ليبيا والفرقة التى أرسلت لإنقاذه إلا أنه خلد ذكرى رجال السفينة «إنديانا بوليس»، وأظهر المعدن الحقيقى للإنسانية فى أى كائن بشرى التى لا تظهر إلا فى أوقات الأزمات والمحن، وذوبان الفروق العرقية والتمييز العنصرى أو أية فروق أخرى تحول بين تواصل البشر بعضهم البعض، وكانت أعلى مشاهد الفيلم تلك والجنود يشدون من أزر بعضهم البعض. بعد إنقاذ ما تبقى من السفينة تبحث القيادة العامة عن كبش فداء تلقيه لأهالى الجنود الغرقى، فتتم محاكمة القبطان مكفاي، وتجيء شهادة قائد الغواصة اليابانية فى صفه وتشيد بقدرته العسكرية، إلا أن المحكمة العسكرية تدين مكفاي، بينما رجاله ممن نجوا كان رأيهم أن يقام تمثال له للبطولة التى حققها لا العكس. ينتهى الفيلم بانتحار تشارلز مكفاى نتيجة الضغوط النفسية والعصبية التى سببها له إحساسه بالذنب تجاه طاقم سفينته، وتلك الكوابيس المفزعة واتصالات أهالى الغارقين يتهمونه بقتل أولادهم وذويهم.