احتفالات الذكري الثانية والأربعين لحرب أكتوبر تميزت بالاختبارات الجيدة للمادة الموضوعية التي عرضتها قنوات التليفزيون العامة والخاصة حيث كان هناك ما يشبه التنافس بينها في خلق حالة من الشعور الوطني والقومي تنعش الذاكرة وتجدد الحماس وتزيد من قوة الترابط بين القوات المسلحة والشعب. ومن بين المواد التي شاهدناها أفلاما تسجيلية قصيرة تعتمد علي أجزاء من وقائع الحرب. ودور الجندي المصري الذي رفع العلم بعد سقوط خط بارليف ودور رجال الصاعقة والطيران..... إلخ. أعمال مهمة ولكن الأهم منها اللقاءات الممتازة التي جرت مع عدد من القادة العسكريين الذين خاضوا غمار هذه الحرب وحققوا النصر. والمواقف الدرامية والبطولات غير التقليدية التي تحققت إبان المعارك وقبلها مهام الاعداد الجيد لاقتحام خط بارليف وسلاح "المياه" الذي استخدم لتحطيم هذا الحصن المنيع والذي لم يصبح منيعا أمام مبتكرات العقلية العسكرية المصرية التي استفادت من تجارب الحروب السابقة ومن أساليب الدفاع التي تصدت لحصون مشابهة مثل خط "ماجينو" الفرنسي الذي يعد نموذجا للتحصينات الدفاعية الثابتة والذي ذكرنا به اللواء المهندس باقي زكي يوسف صاحب فكرة استخدام ضغط المياه لإحداث ثغرات في الساتر الترابي لخط بارليف. "الحكايات" عن تحطيم أقوي خط تحصين دفاعي في التاريخ العسكري تستحق التسجيل والتخليد في أعمال ليست فقط تسجيلية وانما روائية طويلة تبقي للأجيال وتشارك بها في مهرجانات دولية سينمائية حتي تراها أجيال أخري خارج الحدود وشعوب سمعت عن الحرب من وجهات نظر غربية منحازة. أو في أحسن الأحوال غائب عنها عنصر الموضوعية. من بين أهم ما لفت نظري الشخصيات العسكرية البارزة التي بهرتني شخصيا رغم انني لم أكن أشاهدها لأول مرة.. والتي حلت ضيوفا علي كثير من البرامج. وجعلتني أشعر بحجم القصور ازاءهم في مجال السينما الروائية.. وحتي التسجيلية! هل تتذكرون الفيلم الأمريكي "باتون" ¢Patton" الحائز علي سبع جوائز أوسكار الذي يروي قصة الجنرال جورج. إس. باتون خلال الحرب العالمية الثانية والذي اعتمد علي رواية حول السيرة الذاتية لهذا الجنرال العسكري؟.. أفيش الفيلم يصور القائد يقدم التحية وخلفه صورة عملاقة للعلم الأمريكي.. والفيلم نفسه توفرت له جميع عناصر النجاح من سيناريو وتصوير واخراج "فرانكلين شافز" وميزانية ضخمة ودعاية هائلة وشبكة توزيع تغطي كوكب الأرض. إنه فيلم عن دراما الحرب وكيف يتم ترويجها وكسبها علي الشاشة لحساب الولاياتالمتحدة رغم تعدد الأطراف المتحاربة. ورغم ان أمريكا لم تدخلها الا بعد الهجوم الياباني علي بيرل هاربور .1941 ما شاهدناه إبان احتفالات انتصار أكتوبر علي الشاشات المصرية من قادة مصريين عسكريين يتضمن عددا من القادة البارزين لا يقلون بأي حال عن "باتون" Patton الأمريكي الذي لعب دوره الممثل جورج سكوت وحصل عنه علي جائزة الأوسكار.. انه ليس انحيارا. ولكن تقييما موضوعيا. "باتون" قاد القوات الأمريكية في شمال افريقيا عام 1934 واشتبك في معركة مع القائد الألماني الملقب بثعلب الصحراء "روميل" ثم أرسل الي صقلية في ايطاليا بعد ترقيته حيث اشتبك في معركة لاثبات الذات والتفوق مع الجنرال البريطاني مونتجمري وأبلي بلاء "مذهلا" "حسب الفيلم".. يمكنني أن أجازف هنا دون تردد بالقول ان الجنرالات المصريين تفوقوا علي باتون. وروميل ومونتجمري لو استعدنا طبيعة الصراع ومضمون المواجهة مع اسرائيل ضيعة أمريكا وبريطانيا. ولا بأس من اضافة ألمانيا كدولة غربية تقف علي نفس الجانب الموالي لاسرائيل.. اسرائيل تختزل من خلال دورها جوهر الاستعمار الصهيوني العالمي. عشرات الأفلام الحربية حول الحرب العالمية الثانية قامت بإبراز صور هؤلاء القادة في الحرب التي سقط فيها الملايين من كل الأجناس.. ولم تكن منفردة تمثل العامل الحاسم في إنهاء الحرب وهزيمة دول المحور. لقد أظهر "باتون" الفيلم من خلال نجومه السينمائيين البارزين وعبر سيناريو دقيق كتبه المخرج الأمريكي اللامع فرانسيس فوركوبولا. العبقرية العسكرية الأمريكية رغم حجم العنف والجحيم الذي أودي بحياة ملايين الجنود والذي كان "باتون" شخصيا أحد مظاهره. فقد كان قائدا للدبابات ومقاتلا شرسا وتاريخه لا يخلو من أخطاء. ما أردت أن أشير اليه أن الفيلم الأمريكي الذي أنتج عام 1970 وتم تجديد نسخته عام 2003 للحفظ في مكتبة الكونجرس نظرا لأهميته الثقافية والتاريخية والجمالية يعتبر أضخم دعاية للعسكرية الأمريكية. لقد صور "باتون" باعتباره أكبر من الحياة وخارج الزمن لا يشيخ ولا تذبل ملامحه كقائد. وهو في حقيقة الأمر استعماري أصيل... في أثناء الحرب وقف في الميدان حيث موقع قرطاجتونس. وقال "هنا هاجمت روما كرطاج" والآن أنا هنا!! بمعني أن التاريخ يعيد نفسه من خلاله وانه كقائد يجسد روح وبطولات قواد قبله هزموا وغزوا هذه المنطقة من العالم. لقد شاهدت العالم "باتون" من خلال السينما ومن المؤكد أن هذا العالم نفسه التفت الي النصر العسكري في أكتوبر 1973. واعترف بالعسكرية المصرية كقوة ضاربة قادرة علي دحض أساطير اسرائيل وجيشها الذي لا يقهر. ولولا التدخل الأمريكي الداعم لها في الحرب لكانت اسرائيل في موقف آخر. ولكن العالم لم يتعرف - وأنا أعني جماهيره وأبناء شعوبه - علي الجنرالات العسكريين الذين طالعونا منذ أيام وأمدونا بالزاد المعنوي والثقة بالنفس والايمان المطلق بقواتنا المسلحة. انهم رجال امتلكوا الهيئة والقوة واللغة الرصينة. والمصداقية الهائلة والالتزام بالوطن والايمان بالشعب المصري.. أبطال لكل واحد منهم تاريخ ودور وسجل بطولي ومن ثم يستحقون أن نراهم ونصدر صورهم وأفعالهم وانجازاتهم من خلال وسيط الفيلم.. لكن الي متي سنظل نحلم بدور للسينما الوطنية يساند ويضاهي الواقع الفعلي ويجسد هذه الملحمة التاريخية التي مازلنا نسمع أصواتا مغرضة تشكك في حجم الانتصار؟!!