في حرب أكتوبر، انهار موشي ديان وزير الدفاع الإسرائيلي، وطلبت جولدا مائير رئيسة الوزراء التدخل العاجل من أمريكا لانقاذ إسرائيل،..، اما شارون فكانت له شهادة أخري. في مثل هذه الأيام منذ تسعة وثلاثين عاما، وفي نفس الشهر »أكتوبر« كانت الدنيا غير الدنيا، وكان العالم غير العالم، وكانت نيران الحرب ودماء الشهداء تعيد كتابة التاريخ في هذه المنطقة، وتسطر بحروف من نور، علي ضوء وهج المعارك المشتعلة علي الضفة الشرقية للقناة، قصة من أروع قصص البطولة لجيش مصر الباسل الذي هب لاسترداد كرامته وتجاوز النكسة، وغسل عار الهزيمة، وتطهير ارضه من دنس الاحتلال، وإعادة سيناء الي حضن الوطن بعد اغتراب دام لست سنوات طوال. مرت علي مصر وشعبها وكأنها ستون عاماً. ولكل الشباب والأبناء الذين لم يعاصروا هذه الايام المجيدة اقول انها لم تكن حربا عادية، بل كانت بمثابة الزلزال الذي هز المنطقة والعالم، وأحدث متغيرات جسيمة في الشرق الاوسط، والمنطقة العربية، وما بعدها، وفرض علي الجميع والقوي العظمي بالذات اعادة النظر في أوضاع المنطقة وسياساتها تجاهها. وللابناء من الشباب اقول، ان الدلالة العظمي، والمعني الأكبر في نصر أكتوبر هو قدرة الإنسان المصري علي تحدي المستحيل، وكسر قواعد ومسلمات كثيرة كانت تؤكد عجزه عن الحركة بعد الهزيمة القاسية والمباغتة التي ألمت به عام 1967، والتي جعلت الجميع يتوقعون استسلامه الكامل لقدره ومصيره، وحاجته لعقدين أو ثلاثة عقود من الزمن يلعق خلالها جراحه، ويلملم اشلاءه، ويجمع ذاته، كي يستطيع النهوض مرة أخري، ولكن هذا الشعب، وذلك الانسان، فاجأ الكل ونهض من كبوته في بضع سنين لم تتجاوز الست ليواجه عدوه ويصارعه وينتصر عليه، ويحطم اسطورة الجيش الذي لا يقهر، ويحرر ارضه بعد ملحمة رائعة من القتال، سجل فيها تاريخاً مجيداً للعسكرية المصرية. من هنا فإن القول بأن الإنسان المصري، جنديا، وضابطا، وقائدا كان هو المفاجأة الحقيقية لحرب اكتوبر، هو القول الصحيح، وهو عين الصواب وكبد الحقيقة، ، باعتراف وشهادة الكل، الاعداء قبل الاصدقاء. ولو تابعنا وقائع ما حدث وما دار قبل وأثناء وبعد ملحمة العبور والنصر، لوجدنا كل الدلائل تشير الي ذلك وتؤكده،...، وسأذكر ذلك ليكون امام الشباب والابناء صورة لما جري وما كان،...، ففي اسرائيل وقبل الحرب بشهور قلائل، كانت جولدا مائير رئيسة الوزراء في ذلكالوقت، وموشي ديان وزير دفاعها ينتظران رنين الهاتف القادم من مصر، ليعلن الاستسلام وطلب الصلح، بأي شروط وبأي ثمن،...، وهذا ما ذكراه في مذكرات كل منهما. وحتي عندما وردت اليهما معلومات استخباراتية قبل الحرب بأيام قليلة،..، ثم قبلها بساعات، تشير إلي ان المصريين يقومون باستعدادات وتحركات غريبة علي طول الضفة الغربية للقناه، وان هناك حركة غير عادية قد تكون مقدمة لتحرك عسكري، استبعد كلاهما، ومعهما رئيس الأركان لجيش إسرائيل اي قدرة للمصريين علي القتال أو الحرب، وأكدوا أن كل تلك الاشياء مقصود بها رسالة للداخل المصري، وأن الرئيس السادات يفعل ذلك كثيراً، وان حركاته هذه للاستهلاك المحلي، وامتصاص غضب الشباب الناقم عليه لعجزه عن الحرب وإزالة آثار النكسة. كان هذا هو الحال في إسرائيل صباح يوم الحرب ومساء اليوم السابق عليها، ورغم وصول معلومات استخباراتية تؤكد لهم أن هناك قرارا مصريا قد اتخذ بالحرب،..، الا أنهم لم يصدقوا ذلك. وعلي الجانب الآخر من العالم حيث الولاياتالمتحدةالامريكية راعي إسرائيل الأول، وحليفها القوي، لم تكن صورة مصر تختلف كثيراً عما هي لدي الاسرائيليين ، فقد كان هناك انطباع قوي واقتناع كامل، بعدم قدرة المصريين علي الحركة، بل كانوا متأكدين من ان المصريين قد ماتوا بالفعل، أو أنهم في غيبوبة وعلي شفا الموت، نتيجة هزيمة 7691، وظروفهم ومعاناتهم الاقتصادية والاجتماعية المؤلمة والصعبة. وقد وضح ذلك جلياً، وبصورة مؤكدة عندما ذهب وزير خارجية مصر في ذلك الوقت، الدكتور محمد حسن الزيات، بتكليف من الرئيس السادات، لمقابلة هنري كيسنجر، وزير الخارجية الامريكي علي هامش اجتماعات الأممالمتحدة في نيويورك، قبل المعركة بعدة ايام فقط لاغير، وطلب منه ان تقوم الولاياتالمتحدة بحث اسرائيل علي الانسحاب من الاراضي المصرية والعربية المحتلة في الخامس من يونيو 7691، وذلك لإعادة الاستقرار والسلام في المنطقة. فإذا بكيسنجر يلقن وزير الخارجية المصري درسا قاسياً، ويقول له بوقاحة غير دبلوماسية ما معناه، »كيف تطلبون ذلك وأنتم مهزومون، وتحولتم الي ما يشبه الجثة غير القادرة علي الحركة«،..، ثم يضيف »لا أحد يستطيع ان يساعدكم، طالما انكم لا تساعدون انفسكم«. أما علي الناحية الأخري من العالم، حيث الاتحاد السوفيتي الصديق الوحيد للعرب ومصر في ذلك الوقت، فقد كانت الصورة لا تختلف كثيراً، حيث كان لدي القادة السوفيت الثلاثة برجنيف، وبودجورني، وكوسيجين، اقتناع شبه كامل، بأن مصر قد اساءت الي السلاح الروسي، ودمرت سمعته في مواجهة السلاح الغربي بصفة عامة، والأمريكي بصفة خاصة، يوم هزمت في 7691، وهي تحارب بهذا السلاح، وان امامها عشرات السنين حتي تستطيع ان تقوم مرة أخري. وكان السوفيت مقتنعين أنه لا مجال ولا إمكانية لحرب أخري في الشرق الاوسط ، ولا قدرة لمصر علي الحرب أوحتي التفكير ثم التنفيذ لتخطي القناة، وتدمير خط بارليف، الذي قال وزير دفاعهم عنه، إنه يحتاج الي قنبلة ذرية كي يمكن لمصر تدميره وإزالته. ونسي الجميع، ان قوة الارادة لدي الإنسان المصري، وقوة إيمانه بقدرة الله وعونه، تفوق قوة القنابل الذرية وتتفوق عليها، إذا ما صح العمل، وصلح السعي، ورافقهما التخطيط الجيد، والتدريب الجاد والاصرار علي النصر. كانت هذه هي افكار وتصورات العدو والصديق عن مصر قبل الحرب بعدة أيام، ولنا أن نتصور قدر المفاجأة والدهشة التي اصابتهم جميعاً يوم السادس من أكتوبر، مع بداية العبور العظيم. في البداية لم تصدق إسرائيل ما تراه يحدث امامها في سيناء وبطول الجبهة الممتدة أكثر من 081 كيلو مترا، هي طول المسافة من بورسعيد شمالاً، وحتي السويس جنوباً، فقد كان ما يحدث هولاً عظيماً يصعب عليهم تصديقه، حيث عشرات الالاف من جنود مصر يعبرون القناة، ويحطمون خط بارليف المنيع، ويدمرون المواقع الاسرائيلية الحصينة علي الضفة الشرقية للقناة، ويندفعون كالطوفان المدمر يزيلون كل اثر لاسرائيل وجيشها علي خط القناة. كانت الصدمة مذهلة وهم يشاهدون طائراتهم، الذراع الطويلة لجيشهم، تتساقط امام حائط الصواريخ المصرية، وفي مواجهة الطائرات المصرية. كان الزلزال عنيفا، وكانت الصدمة قاسية، وكانت الحقيقة مرة بالنسبة لهم، فقد عبر المصريون القناة، وحطموا خط بارليف، وأسقطوا اسطورة الجيش الذي لا يقهر، ولا احد يستطيع ان يوقفهم،...، وانهار موشي ديان عندما تأكد من حقيقة ما يحدث. وقبل انهيار ديان وزير الدفاع، كان انهيار الجنرال جونين قائد الجبهة الجنوبية الإسرائيلية في سيناء، ولم يستطع التحرك، وفقد القدرة علي السيطرة او التماسك وهو يري دمار وهزيمة قواته في سيناء، وحاول الدفع بلواءات وأرتال الدبابات للقضاء علي المصريين في بداية العبور، ومحاولة إنقاذ خط بارليف، ولكن الدمار كان من نصيبهم. وبعد انهيار ديان وجونين، انهارت جولدا مائير رئيسة الوزراء وهي تتلقي نتائج القتال، وكانت كلها نتائج سوداء، وكلها نذير شؤم،..، وجاء اليوم التالي يحمل اخباراً وحقائق أشد سواداً حيث تم تدمير المئات من الدبابات الاسرائيلية، وسقطت دفاعات جيشهم في سيناء، واصبح الطريق للهزيمة مفتوحاً. وعبر مسافات طويلة، وعلي الجانب الآخر من الاطلنطي حيث الولاياتالمتحدة، الحليف والصديق لإسرائيل، كان المشهد مثيراً للانتباه ومدعاة للدهشة والجدل،..، ففي البداية لم يصدق الامريكان وعلي رأسهم كيسنجر وزير الخارجية العتيد ما يحدث علي الجبهة المصرية مع اسرائيل. ولكن كانت المفاجأة صعبة التصديق عندما أكدت المعلومات المتوالية بعد ذلك من المخابرات الامريكية، ومن إسرائيل بعدها ان المصريين عبروا القناة، ويدمرون القوات الاسرائيلية، ويحققون انتصارات كبيرة ومؤكدة. وبعدها بثلاثة أيام فقط، اي في اليوم الرابع للحرب، جاءه صوت جولدا مائير عبر الهاتف من إسرائيل، كانت منهارة تماما، تصرخ وتطلب انقاذ إسرائيل من الهزيمة والضياع، وتطلب من كيسنجر ابلاغ الرئيس الامريكي فوراً حاجة إسرائيل للمساعدة العاجلة، وتقول ان الطريق مفتوح الي تل ابيب، وأن أحداً لا يستطيع وقف المصريين. وبالفعل ابلغ كيسنجر الرئيس نيكسون، وتم فتح مخازن السلاح الامريكي في القواعد الامريكية بأوروبا والشرق الاوسط لمساعدة إسرائيل وإنقاذها، وطلب نيكسون الاتصال بالسوفيت لوقف القتال فوراً. وهكذا اختلفت الصورة، واصبح المصري صانع النصر محل تقدير واحترام العالم كله، وأصبح السادس من أكتوبر 3791، يوما لا ينسي في تاريخ مصر والمنطقة، والعالم.