قامت أجهزة الإعلام الإسرائيلية بتضخيم هزيمة الخامس من يونيو عام 1967، فقد روجت هذه الهزيمة تحت شعار أن مصر قد انتهت إلى الأبد، وكانت وجوه كل المصريين غاضبة مقهورة صابرة، وقد اختفت الابتسامات، وقد وصف هنرى كيسنجر باحث سياسي أمريكي مصر بأنها حصان ميت لن تقوم له قائمة.. وقال موشى ديان وزير الحرب الإسرائيلى: إن أمام مصر مائة عام على الأقل حتى تخرج من هزيمتها وتملك القدرة على القتال.. وكان الإنسان المصرى حتى فى بلاد الأشقاء يشعر أو يشعرونه بعار لم يرتكبه، وكانت الصحف العربية تنقل عن صحافة إسرائيل والغرب عناصر الحملة النفسية على الشعب المصرى وقواته المسلحة. ووسط هذه الحرب النفسية وفى ظروف من أقسى الظروف التى مرت على مصر.. جاء قرار المبادرة بالقتال فى 6 أكتوبر 1973 وكانت الحرب النفسية قبل صدور هذا القرار قد وصلت إلى ذروتها حتى إن بعض قادة القوات المسلحة المصرية خشوا إعطاء التمام بإمكانية القتال، وكان من الممكن أن تشد هذه الحملة البشعة الرئيس الراحل أنور السادات إلى تلك الدوامة، دوامة الخوف من الهزيمة وما سوف يتبعها من نتائج، ولكنه خطط وأعطى القرار، فانطلقت كل طاقات مصر لتعزف فى تنسيق عظيم ملحمة أكتوبر الخالدة. وما حدث للمصريين فى سيناء عام 1967 حدث بنفس المشاهد للإسرائيليين فى أكتوبر 1973 والذين نسجوا قصص الخيال حول "أسطورة المقاتل الإسرائيلى" هم أنفسهم الذين أدانوا تلك الأسطورة وأدانوا قادتهم وهؤلاء الذين نعتوا الشعب المصرى بأحط النعوت وأقساها هم الذين اعترفوا بقدرة الجندى المصرى على القتال، ومقابل ألبومات النصر التى صدرت عام 67، فقد صدرت فى إسرائيل بعد 73 مذكرات السياسيين والقادة الذين يوجهون الاتهامات لبعضهم. وفى اجتماع حاشد للجنود قرب قناة السويس سأل جندى موشى ديان: من انتصر فى الحرب؟ فانفجر الجميع فى الضحك، ولم يجب ديان، وساد إسرائيل لأول مرة شعور بالفشل الرهيب والقلق والبلبلة، لقد كتب الحاخام "ليفنجر" بعد الحرب يقول: لقد اشتدت خطورة الوضع فى أعقاب حرب يوم الغفران وحل الشعور بالإحباط والعجز والتدهور محل الفرحة والعبث الوطنى، وبدلاً من المعنويات العالية التى سيطرت على الشعب فى يونيه 67 فقد توقف الإيمان بالخلاص وبقرب مجيء المسيح. وعقب وقف القتال صدر كتاب إسرائيلى بعنوان "المحدال" وهو يعنى بالعبرية "التقصير".. وقد أصدره سبعة من المراسلين العسكريين؛ هم: بن فوران مراسل صحيفة يديعوت أحرنوت ويهونتان جيفن كاتب فى صحيفة معاريف، وأوردى دان المرسل العسكرى لمعاريف أيضًا، وإيتان هيفر المراسل العسكرى ليديعوت أحرونوت، وحيزى كرمل معلق متخصص بشئون الشرق الأوسط، وإيلى لندا المراسل العسكرى لصحيفة معاريف، وأيلى تايور محرر بمجلة هعولام هازيه. هؤلاء السبعة عادوا من جبهة القتال فور وقف إطلاق النار فى حرب أكتوبر واشتركوا فى إصدار كتاب عن الحرب بعنوان "التقصير" ورغم مرور الكتاب على الرقابة العسكرية الإسرائيلية، ورغم حذف الرقابة الإسرائيلية فصولاً كاملة إلا أنه رغم ذلك جاء هذا الكتاب وثيقة تاريخية لكفاءة الجندى المصرى وبسالته واستيعابه السلاح ومهارته فى التعامل مع العدو، وهو فى الوقت ذاته شهادة إسرائيلية بأن الجيش الإسرائيلى الذى لا يقهر والمخابرات الإسرائيلية التى تعرف كل شىء ما هى إلا مجرد أسطورة حطمتها تمامًا قدرة الجندى المصرى على الحرب والقتال وقدرة القيادة العسكرية على التخطيط والحشد والتمويه. جولدا مائير رئيسة وزراء إسرائيل اعترفت قائلة: ليس أشق على نفسى من الكتابة عن حرب أكتوبر عام 1973 حرب يوم الغفران، ولن أكتب عن الحرب من الناحية العسكرية، فهذا أتركه للآخرين، ولكنى أكتب عنها ككارثة ساحقة وكابوس عشته بنفسى وسيظل باقيًا معى طول العمر.. وكانت جولدا مائير قد صرحت مئات المرات قبل حرب أكتوبر بأن مصر القائد الذى يستطيع اتخاذ قرار الحرب، وإلا أرسل شعبه إلى الهلاك. وتقول جولدا مائير بعد ظهر اليوم السابع من أكتوبر ديان.. وهو يعود من إحدى مناطق التفتيش فى الجبهة طلب مقابلتى عاجلاً، ثم أخذ يقول لى بأن من رأيه أن الحالة فى الجنوب رديئة جدًا إلى درجة أنه يتوجب علينا التراجع إلى الخلف لنتمكن من تأسيس خط دفاعى جديد.. كنت أستمع إليه بفزع وباشمئزاز شديدين. وتؤكد مائير أن ديان رمز الأمن فى إسرائيل كان متشائمًا جدًا.. وقدم استقالته مرتين أثناء الحرب والمرة الثالثة عندما انتهت لجنة التحقيق الخاصة بالتقصير فى الحرب. هذه شهادة عجوز إسرائيل جولدا مائير حيث عاشت انتصارات إسرائيل الكبرى، حيث رأت الحلم الإسرائيلى وهو يلتهم جيوش عدة دول عربية حتى تحقق.. حيث شاهدت جنود إسرائيل فوق هضبة الجولان السورية يهددون دمشق وعلى ضفة قناة السويس وكل سيناء فى حوزتهم، ثم شاهدت قبل أن تموت الزلزال المصرى يمزق عرشها ويحول أحلامها سرابا ويجبرها أن تفكر فى الانتحار، لأن ما حدث كان يمكن أن يقتلع الوجود الإسرائيلى من المنطقة على حد تعبير مساعديها وماتت جولدا مائير وشبح حرب أكتوبر يطاردها حتى وهى تلفظ أنفاسها الأخيرة. وفى ألم وحسرة بعد النشوة التى عاشها حوالى ست سنوات يتحدث "ديان" عن معركة الدبابات فيقول: فى اليوم الرابع للحرب، وضح أن مصر أحرزت تفوقًا فى معارك الدبابات بسيناء، ولو أصرت إسرائيل على الاستمرار فى محاولة وضع القوات المصرية التى عبرت إلى غرب القناة مرة أخرى لفقدت إسرائيل قواتها، ولما أصبح لديها قوة تذكر. يقول ديان وكله حسرة: إن إسرائيل قد فقدت أى أمل فى القيام بهجوم مضاد لتجبر به مصر على التراجع عن الأراضى التى حررتها، وقال: إن إسرائيل خسرت فى الحرب عددًا هائلاً من الطائرات وعددًا مهولاً من الدبابات. ففى ذلك اليوم.. لا عمل ولا أتوبيس ولا لورى ولا سيارة تتحرك من أى موقع.. إنه عيد الأعياد.. ويوم الأيام بهذه الحرب سوف يضاف لهذا العيد معنى آخر.. يوجع القلب إلى الأبد. ويضيف ديان فى مذكراته: لا يمكن أن توصف حالتى النفسية، فقد بلغ بى القلق أقسى وأقصى درجاته.. فالوضع العسكرى سيئ جدًا، وهناك سؤال يطاردنى كل هذه الساعات المريرة ماذا جرى؟ وكيف حدث ذلك؟ هل نحن اخطأنا فى وضع الخطة؟ أم نحن اخطأنا فى تطبيقها؟.. ماذا أصاب المبادئ الأساسية الثلاثة لوقف أى زحف مصرى.. مدرعاتنا وطائراتنا واستحكاماتنا المنيعة على القناة.. التى تجعل من المستحيل على المصريين أن يفكروا فى ذلك، وإذا فعلوا كانت خسائرهم فادحة؟ لقد صدرت مذكرات الجنرال الأعور بعد الحرب بثلاث سنوات، وقد أخفى ديان أغلب الحقيقة.. وحاول من خلالها أن يجمل صورته أمام الرأى العام الإسرائيلى، ويبرر موقفه وتصور أن كل الناس فى داخل إسرائيل وخارجها قد نسيت الصورة أو نسيت أحداث حرب أكتوبر. ونسى الجنرال المهزوم وهو يكتب مذكراته.. أنه أراد الاستسلام عندما قدم استقالته ثلاث مرات لجولدا مائير.. ونسى كذلك أن أقارب قتلى حرب أكتوبر قد منعوه من إلقاء محاضرة فى جامعة تل أبيب فى 19 ديسمبر عام 1974، وطالبوا بمحاكمته لقد مات الجنرال الأعور.. بعد أن شاهد بعينه أسطورته وهى تنهار ومات قلقًا على مستقبل إسرائيل ذاتها، بل ومات، وقد لقبوه بوزير العار. ومن جانبه، اعترف موردخاى جور رئيس هيئة أركان حرب الجيش الإسرائيلى، قائلاً: كان الجيش قد تحول مثل مريض السكر الذى تحول المرض فى دمه إلى بولينا كفيلة بالقضاء عليه، وكان المطلوب حقنة أنسولين مهدئة وكانت الثغرة هى هذه الحقنة. النازى أرييل شارون رئيس الوزراء الإسرائيلى الأسبق، ظل يدافع عن الثغرة باعتبارها أهم إنجاز إسرائيلى على جبهة قناة السويس، ولكن هو نفسه قد سقط فى اعتراف مثير للصحفى البريطانى لويس هاك عندما قال عن الثغرة: إننى أدرك تمامًا أن كل الإسرائيليين الموجودين فى الضفة الغربية لقناة السويس أصبحوا رهينة فى أيدى المصريين لو أن القتال قد تجدد.. وقد وقعت إسرائيل اتفاقية الفصل بين القوات تحت ضغط هذه النقطة، ومن ناحيته قال حاييم بارليف صاحب الخط الذى كان منيعًا ويحمل اسمه بعد أقل من شهرين من وقف إطلاق النار 16/11/1973 فى صحيفة على همشمار: "إن عملية الدفرسوار كانت مغامرة انتحارية لقد كان بامكان المصريين القضاء على قواتنا فى ساعات وتكبيدنا آلاف القتلى لولا أن احترامهم وقف اطلاق النار جاء رحمة بجنودنا وضباطنا.. فلماذا يتبجح شارون؟".