قلنا إن ما تبثه وسائل الإعلام الأمريكية, وفي مقدمتها ال سي إن إن, القناة الإخبارية الأشهر, يعكس اهتمام الأمريكيين بقضيتين لا ثالث لهما هذه الأيام. وقد تحدثنا عن الأولي ذبح الصحفي الأمريكي جيمس فولي علي أيدي عناصر ما يسمي تنظيم داعش الأسبوع الماضي, وقتلناها وغيرنا بحثا. أما الثانية, فهي مقتل المراهق الأسود مايكل براون علي يد الشرطي الأبيض دارين ويلسون دون مبرر واضح في مدينة فرجسون بولاية ميزوري الأمريكية الشهر الماضي, وما تبعه من مظاهرات وأعمال شغب من قبل السود احتجاجا علي الحادث الذي وصفوه بأنه عنصري.. وكان لابد من وقفة مع هذه القضية نظرا لأهميتها الشديدة وما تعكسه من استمرار العنصرية البغيضة في أرض الأحلام حتي يومنا هذا. ولفت نظري ما تبثه ال سي إن إن من تقارير خبيثة تخصها, ومنها أن هناك الكثير من المتعاطفين مع ويلسون في فيرجسون وما حولها, وأنهم قرروا الظهور بلا خوف والقيام بتظاهرات مضادة دعما ومساندة للشرطي الأبيض, ومنها أيضا أن الفتي براون وفقا لتقارير غير مؤكدة اعتدي علي ويلسون بالضرب وأحدث به إصابات بالوجه, مما أثار غضبه وجعله يطلق عليه النار. وبصرف النظر عن التفاصيل, فإن القضية تعني استمرار ظاهرتين في غاية الخطورة ببلاد العم سام, الأولي: العنصرية والعنصرية المضادة, بمعني اضطهاد السود للبيض كرد فعل علي عنصريتهم, والثانية: حمل السلاح وانتشار أعمال العنف المجنون وغير المبرر. فرغم مرور14 عاما علي بداية القرن الحادي والعشرين, وأكثر من مائتي عام علي استقلال الولاياتالمتحدة عن بريطانيا ووضع الدستور الأمريكي, مازالت بلاد العم سام تعاني من تداعيات العنصرية البغيضة التي من المفترض أنها تخلصت منها رسميا, لكنها عمليا كامنة تحت جلدها, تلوثه وتسبب فيه التقيحات من وقت لآخر, وتثير الدهشة من عجز دولة تزعم قيادة الحركة الديمقراطية الدولية عن القضاء علي وباء تخلصت منه معظم دول العالم. المؤسف أن وجه العنصرية القبيح يطل حتي وسط النخبة الأمريكية وبين أوساط المثقفين, الذين من المفترض أنهم صفوة المجتمع وقدوته.. وأتذكر الخلاف العنصري الذي نشب قبل عامين بين المخرج الأمريكي الأسود المعروف سبايك لي ونظيره الأبيض الشهير كوينتن تارانتينو حول فيلم الأخير جانجو بلا قيود, الذي رشح لنيل خمس من جوائز الأوسكار. وكان لي, الذي سبق له صناعة العديد من الأفلام التي تناقش القضايا العنصرية, مثل افعل الشيء الصحيح و كيف ريد هوك, قد اتخذ موقفا عدائيا من فيلم تارانتينو وأعلن مقاطعته له قبل حتي مشاهدته, وقال في تصريحات تليفزيونية إنه لن يشاهده لأنه يحترم أجداده السود, ويعتبر مشاهدته إهانة لهم.. وأوضح موقفه أكثر في تغريدة علي موقع تويتر قائلا: العبودية الأمريكية لم تكن فيلم وسترن سباجيتي علي طريقة سيرجيو ليون. كانت هولوكوست. أجدادي عبيد تم اختطافهم من إفريقيا, وسأكرمهم دائما. ومثل معظم أفلام تارانتينو السابقة, يحفل جانجو بلا قيود بمشاهد العنف المقدمة بروح مرحة ساخرة رغم دمويتها, في مفارقة تميز مسيرة هذا المخرج الكبير كلها.. ولعل ذلك هو ما أغضب سبايك لي, حيث أعتقد أن تارانتينو يسخر من معاناة أجداده الأفارقة, لكن الحقيقة أن تنفيذ مشاهد تعذيب هؤلاء الأفارقة, الذين أجبروا علي ترك ديارهم والهجرة إلي بلاد غريبة للعمل كعبيد لدي أسياد بيض, جاء خاليا من أي سخرية, حيث قدمها تارانتينو بجدية, بعكس مشاهد الفيلم الأخري. ما اعترف به تارانتينو هو أنه حاول كسر هالة القدسية التي تحيط بأي رواية تدور حول العبيد السود ومعاناتهم, وقال: كل ما يروي عنهم يتم التعامل معه علي أنه تاريخ لا يقبل الشك, ويتم وضعه في المتاحف خلف الزجاج حتي لا يمس.. حاولت أن ألقي بحجر نحو هذا الزجاج لأكسره وأخذ الجمهور إلي قلب الحكاية. وبالفعل, يجمع المؤرخون علي أن مسألة إجبار العبيد علي التقاتل حتي الموت والتي يصورها تارانتينو في فيلمه لم تثبت تاريخيا إطلاقا. أما فيما يخص حمل السلاح والعنف الأمريكي, فمن المعروف أن أي جهود سيبذلها أوباما أو حكومته لوضع قيود علي امتلاك الأسلحة الشخصية في الولاياتالمتحدة, سنواجه بحقيقة أن حمل السلاح حق مكفول للمواطنين في الدستور الأمريكي, كما أن ثقافة امتلاك السلاح الشخصي شائعة وراسخة في بلاد العم سام.. وتقول الإحصائيات إن هناك مئات الملايين من قطع السلاح المرخصة بين أيدي الأمريكيين, وإن أكثر من11 ألف أمريكي لقوا مصرعهم خلال2011, في حوادث لإطلاق النار ليس من بينها الانتحار. وتقوم علي حماية حق الأمريكيين في حمل السلاح الشخصي عدة منظمات غير حكومية في غاية القوة والنفوذ, أبرزها الرابطة الوطنية للبنادق, وهي منظمة قديمة يعود تاريخها إلي عام1871, وتضم في عضويتها4.3 مليون أمريكي, وترتبط بعلاقات وثيقة مع دوائر صنع القرار بواشنطن, أي أن المعركة معها لتقييد حرية تملك السلاح الشخصي ستكون في غاية الصعوبة.