لم تكد بلادنا تخرج من نفق مظلم إلا وتدخل في آخر أشد ظلمة. فلم نكد نفرح بثورة شبابنا في 25 يناير حتي فوجئنا بمظاهرات تخرج تقريباً من كل الشوارع والحواري والأزقة. كل واحد من هؤلاء له مطالب خاصة يريد تحقيقها فوراً. والبعض يصر علي ضرورة تلبية الأهداف "الآن" حتي سئمنا من كلمة "الآن" هذه. ولم يلتفت أي واحد من المتظاهرين إلي حالة الانفلات الأمني. وأعمال البلطجة التي تتكرر في كل مكان. الجميع مشغول بترديد رغباته الفئوية قبل أن تفلت منه هذه الفرصة. التسابق والتنافس علي أشده. الحناجر أصابها العطب. والصوت نالته حشرجة. فلا يكاد أحد يفهم من صاحبه ما يريد. إنها مأساة جماهير شغلها الشاغل الاحتجاج والتظاهر والجلوس في الخيام بميدان التحرير أو بالقرب من جامع مصطفي محمود بالمهندسين. وإذا سألت عن الأسباب تجد من يتصدي للإجابة قائلاً: لن نترك مواقعنا حتي تكتمل مطالبنا. وإذا قلت: لقد تحقق 90% مما تريدون. تجد من يردد: نريد سرعة إنهاء باقي الأهداف. نحن مستمرون في التحرير.. ماذا يقلقكم؟! الغريب أن المتظاهرين يعتقدون أن الصوت العالي هو أقرب الطرق لتحقيق الأهداف. ومن المثير أنني رأيت من هؤلاء من يهتف بمفرده. المسكين بذل جهداً فوق طاقته في محاولة لكي يصل صوته إلي آخرين. فربما سارعوا للانضمام إليه. ولم يدرك هذا الفتي أن مصر خسارتها تجاوزت 37 ملياراً من الجنيهات. الإنتاج متوقف. 6 ملايين من عمال اليومية بلا مورد رزق. المخزون الاستراتيجي من السلع الغذائية والدقيق تستنزفه الأيام. الوعي مفقود. المناقشات تدور دون إدراك لكل الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والإمكانيات المادية. وكأن "الآن" هي التي تحسم الأمر ولا شيء غيرها!! الخطر الداهم.. تلك الفتنة الطائفية التي انطلقت من قرية "صول" التابعة لأطفيح بمحافظة حلوان. تبادل الاتهامات والاعتداءات علي دور العبادة بصورة غير مسبوقة.. وصدق الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر حين قال: "إننا لم نر علي مدي التاريخ الإسلامي هدم كنيسة للإخوة المسيحيين". هذا العمل بكل تأكيد تشويه للإسلام وأهله. فمصر تحتضن كل أبنائها بحنان وحب ومودة. وأن هذه الحماقات وتلك الاعتداءات لابد من مواجهتها بكل قوة لحماية البلاد من كارثة محققة سوف تصيب نيرانها كل مصري. ماذا جري لأبناء مصر هذه الأيام؟!.. أهل هذه البلاد يعيشون فوق تراب الوطن. وحدة واحدة لا فرق بسبب اللون أو العرق أو الدين.. الإسلام يحترم أهل كل الديانات. حرية العقيدة مكفولة للجميع. الصداقات بين الأفراد والعائلات ضاربة جذورها في أعماق التاريخ. في الأفراح والمآتم. لا تستطيع أن تفرق بين مصري. وآخر في الكنيسة. تجد المسلم في المسجد. وتجد المسيحي قد تحدث في مسجد القائد إبراهيم بالإسكندرية. ومن قبله كثيرون دون غضاضة من أحد. الشحن الطائفي دخيل علي مجتمعنا المصري. ها هي آثار بلادنا لم تمتد إليها أي يد إسلامية منذ الفتح الإسلامي وحتي هذه الأيام. هوس وطائفية ممقوتة. أي تجاوز أو اختلافات يمكن للحكماء السيطرة عليها بهدوء بعيداً عن هذه الفوضي. وتلك النزعات التي تتنافي مع سماحة المصريين بنسيجهم الوطني. هذه الأعمال ليست في صالح أي مسلم أو مسيحي. الخراب يهدد الجميع. يا أبناء مصر استيقظوا من سباتكم. المتربصون بكم كثيرون. الطامعون في خيرات بلادكم أكثر. اجمعوا صفوفكم. وحدوا كلمتكم قبل أن يفلت الزمام. وحينئذي سوف يتحكم في مصائركم الأجانب والمحتلون. فما جري في العراق وأفغانستان ليس ببعيد. اتقوا اللَّه في بلادكم. انفضوا الأحقاد الشخصية والمطامع الكاذبة. اجعلوا هدفكم استعادة بناء مصر بعد 25 يناير.. أين ضمائركم من هذا الانفلات الطائفي وتلك المطالب التي تساهم في توسيع الفجوة بين الأشقاء؟! أعتقد أنه حان الوقت لكي يتحرك رجال الدين وأهل الفكر والحكمة من المسلمين والمسيحيين وعقد الندوات واللقاءات معاً. ومناقشة كل الأطراف بهدوء وتوعيتهم بمدي الأخطار التي تصيب الحياة بالزعزعة أكثر من التي نعيشها. واستنهاض الشهامة وهمة الرجال المخلصين لاقتلاع هذه النزعات الطائفية بحكمة الشيوخ وخبرة أهل الدعوة. سواء من القساوسة أو رجال الدعوة الإسلامية وأئمة المساجد. والدعاة بالفضائيات. وبذل أقصي الجهد لتضميد الجراح. ورأب الصدع. وعلاج الشرخ الذي أصاب أهل مصر. يا سادة إن ما يجري بالشارع والميادين لا يرضي أحداً. الصورة في أسوأ حالاتها. ألم تشاهدوا هذه المجموعة التي اقتحمت مكتب مسئول بإحدي الشركات بالبحيرة وقتلوه؟!.. ألم تروا المصابين في أحداث الشغب الطائفي بالمقطم وغيرهم بالطريق الدائري ومنطقة الخليفة؟!.. هل أنتم راضون عن هذا الشلل الذي أصاب حياتنا.. فهل يرضيكم قيام مجموعة من الشباب باقتحام مقر مجلس الوزراء؟!.. رغم أن رئيس الوزراء الجديد لم يدخر وسعاً في النزول للشباب والأقباط. وأصحاب المطالب الفئوية. ويتحدث إليهم بنفسه. مع أنه يعاني من وعكة صحية. إلا أنه يصر علي لقاء الجميع بقلب وعقل مفتوح.. هل الشهامة والنخوة ابتعدت عنكم يا أبناء مصر؟!.. هل أصبح الاقتتال فيما بينكم العمل المحبب إلي نفوسكم؟!.. الكارثة أن السُباب والشتائم تنهال من الأخ لأخيه بلا حساب!!.. إنها بلا شك قمة المأساة. أن قلوب الأمهات والآباء وكل الغيورين علي بلادنا يعتصرها الألم. وتتردد في الصدور أحزان علي ما وصلنا إليه.. نخرج من فوضي لنجد كارثة تغتال البشر وتدمر البلاد!! ولا شك أن الآمال معقودة علي أهل الفكر والدعاة من كل الأطراف لمساعدة رجال القوات المسلحة في إنهاء تلك الفوضي. والوقوف بجانب هؤلاء الرجال الذين يواصلون الليل بالنهار لاستعادة الأمن والاستقرار لبلادنا. ليتنا نبادر جميعاً ونفض الاعتصامات والمظاهرات بالتحرير ومختلف الميادين. ونلتفت بأقصي سرعة لتعويض خسائرنا ويعود الإنتاج لسابق عهده. لا تدعوا الفرصة تفلت من بين أيديكم. وإلا فلا تلومون إلا أنفسكم. أكرر: اتقوا اللَّه في مصر!!