مداد كثير سال منذ إعلان حركة النهضة التونسية في مؤتمرها العام العاشر عن تحول تاريخي تقطع بموجبه صلتها بما أسمته "الإسلام السياسي" وجماعاته وأفكاره ، وتفصل الحركة عن مسارها الدعوي لتتحول إلى المسار السياسي كحزب مدني ، مرجعيته مجمل القيم الديمقراطية والقواعد المتعلقة بالحريات والعدالة والفصل بين السلطات وسيادة القانون ، وانقسم الناس كثيرا تجاه هذا التطور ، سواء كان الانقسام عن المشروعية بين الإسلاميين أنفسهم ، أو بين مستويات التشكيك عند القوى الأخرى المخاصمة للإسلاميين ، ما بين مستريب في جدية هذا التحول ، وبين مندد به ، وما بين مرحب بتحفظ ، وما بين مستنكر تلك العاطفة الزائدة والاندفاع غير المحسوب ، وما بين رافض لروح الاستعلاء التي تحدث بها قادة النهضة عن تجربتهم مقارنة بتجارب أخرى في الشرق ، وهو ما دفع قادة النهضة ، وفي مقدمتهم الشيخ راشد الغنوشي إلى التعليق والتعقيب على ذلك كله لتخفيف المخاوف والقلق والشكوك . وقبل أي تقييم أو مراجعة لخطوة النهضة ، فإن المراجعة الأهم في تقديري لتجربة الحركات الإسلامية بشكل عام ، سواء الإخوان المسلمين أو غيرهم ، هي مراجعة تاريخية ، للحظة التي ولدت فيها الحركات الإسلامية الشعبية المنفصلة عن المؤسسات الرسمية أو عن الدولة المركزية ، ويمكن أن تكون التجربة التي ولدت على يد الشيخ حسن البنا رحمه الله هي مفتتح هذا التوجه كله ، فكرة الجماعة الإسلامية الشعبية ، التي يكون لها أمير له بيعة تجاه آخرين يتبعونه ويسمعون له ويطيعون ويدينون بالولاء له وللجماعة قبل أي ولاء اجتماعي أو سياسي آخر ، ويشكل هذا الأمير مؤسسات موازية لمؤسسات الدولة ، من خلال مجلس رئاسي "مكتب للإرشاد" ومجلس شورى عام "برلمان خاص" ، ومكاتب إدارية تنظيمية في مختلف المدن والمراكز ونحو ذلك ، وهو أشبه بكيان دولة موازية ، وهكذا قصد البنا بالفعل في بداية نشاطه ، معتبرا أن "الجماعة" هي التحقق العملي لمفهوم الإسلام الشامل ، سياسيا واقتصاديا وتربويا وإعلاميا ورياضيا : (نحن دعوة سلفية ، وطريقة صوفية، وهيئة سياسية، وجماعة رياضية، وشركة اقتصادية ...) ، وكان هذا الوعي الشمولي للتنظيم الديني "الجماعة" نابعا من ردة فعل على إعلان زوال الخلافة الإسلامية التاريخي بإنهاء مظلة الخلافة العثمانية الفضفاضة والضعيفة في العام 1923 ، وهو ما أحدث فراغا معنويا وفكريا وتنظيريا لدى جموع المسلمين في العالم ، فنشطت دعاوى لاستعادة الخلافة من خلال مؤتمرات عقدت في القاهرة برعاية الملك فؤاد نفسه وفي مكةالمكرمة وفي الهند ، ولكنها فشلت جميعا ، ووضح أن مسار التاريخ تجاوز الفكرة بكاملها ، فتولدت لدى حسن البنا ، المهموم بالشأن الإسلامي العام في مصر والعالم ، فكرة توليد خلية جنينية لدولة الخلافة ، جماعة تحمل كل مواصفات ومسئوليات دولة الخلافة وتحمي هذه المواصفات وتدعو لها لحين تحقق "تمكين" الجماعة لإعادة دولة الإسلام الراشدة . هذه الفكرة العاطفية ولدت كما أشرت كرد فعل لتطور تاريخي فاجأ العقل الإسلامي ، ولم يكن لديه أي نظريات سياسية جديدة يمكن أن تفتح له أفقا بديلا ، وكان آخر اجتهاد لنظرية سياسية عرفه العقل الإسلامي الجاد متجمدا عند إمام الحرمين الجويني (419 ه 478 ه) وكتابه الفذ "غياث الأمم في التياث الظلم" ، والمشهور باسم "الغياثي" وهو الوحيد الذي عالج وفق خبرات زمانه فكرة افتراضية بأن يغيب الإمام أو لا تكون للمسلمين دولة ، فاجتهد حسن البنا في إظهار صيغة "جماعة للإخوان المسلمين" تشغل الفراغ الذي تركه غياب دولة الخلافة لحين تحققها واستعادتها ، ونجحت التجربة بصورة كبيرة في العشرين عاما الأولى من التأسيس ، وأصبحت رقما مهما في السياسة الداخلية المصرية 1928 1948 ، كما امتدت الفكرة باعتبارها نسخة جنينية للخلافة إلى بلاد عربية وإسلامية عديدة تشكلت فيها أفرع للجماعة . أخطر ما كشفت عنه تجربة الإخوان المسلمين في بواكيرها ، أمران : الأول هو غياب روح التجديد في الفكرة وتطويرها ، باستثناءات جزئية مثل المشاركة السياسية أو مشاركة المرأة أو القبول بالأحزاب السياسية أو التداول السلمي للسلطة في تصور إسلامي جديد ، لكن فكرة الجماعة وروحها وشموليتها وتميزها واستعلائها وتمثل ظل الخلافة فيها ، ظلت متجمدة وحاكمة على الخيال وعلى البنية التنظيمية وعلى الأفكار وعلى العلاقة مع الآخرين ، أفرادا وحكومات ، وهذا ما جعل الجماعة تعيد انتاج أخطائها الكارثية رغم تغير النظم وتغير الحكومات وتغير الحكام وتغير المنطقة الجغرافية أيضا . الأمر الآخر ، وهو فرع عن الأول ، هو الصدام الدائم المتكرر بين الجماعة وبين "الدولة" ، سواء في العصر الملكي أو في عصر عبد الناصر أو السادات أو مبارك أو الوضع الحالي ، وسواء كانت التجربة في مصر أو دولة عربية أخرى ، وهو صدام كان حتميا وبديهيا ، لأن ما تمارسه الجماعة ليس حراكا سياسيا داخل مؤسسات واحدة أو دولة واحدة ، وإنما صدام بين كيانين متوازيين ، أحدهما يمثل "الدولة" ، والآخر يمثل "دولة جنينية" موازية وبديلة ، وهو صدام أرهق الاثنين على الدوام ، فقد استنزف الدولة ودفعها للتوحش والخوف الدائم ، كما استنزف طاقات الجماعة وطاقات أجيال من الشباب المسلم الجديد الذي انضوى تحتها وآمن بمشروعها ، بوضعه في صدام مجاني لم يكن له مبرر بالأساس ، أو كان يمكن تصريفه في أداء سياسي مختلف ومن خلال بنية مؤسسية حديثة تحقق تطورا آمنا للمجتمع وتراكم خبراته نحو التحديث والتحرر والديمقراطية . الإخوان ليسوا مسئولين بطبيعة الحال عن الجماعات الإسلامية الأخرى الراديكالية أو الجهادية التي ظهرت على مدار التاريخ الطويل من الستينات الميلادية وحتى الآن ، ولكن المشكلة أن تلك الجماعات عندما نشأت كانت تستلهم نفس الخيال والبنية التنظيمية التي ظهر بها حسن البنا ، نفس القالب الذي صبه وأظهره ، الجماعة والأمير والبيعة والعمل السري أو العمل خارج إطار الدولة ومؤسساتها ، ومع تزايد خوف "الدولة" وتزايد وحشيتها وأدوات السيطرة لديها ، تزايدت بالمقابل نزعات التوحش والعنف لدى تلك الجماعات الدينية حتى وصلنا إلى نموذج "داعش" المروع ، والذي حاول إخراج "الدولة الجنينية" التي كان يحلم بها حسن البنا من عالم الفكر والخيال والأمل إلى عالم الواقع بإعلانه "الدولة الإسلامية" في العراق والشام . وللحديث بقية ...