نظر الكثيرون إلى سياسة أردوجان العربية في السنوات الأخيرة على أنها عودة تركية من أجل إحياء الخلافة العثمانية وفرض الهيمنة التركية من جديد على المنطقة. والآن ومع صعود الإخوان المسلمين إلى سدة الحكم في مصر، وربما قريبًا في العديد من الدول العربية الأخرى، بدأ البعض في طرح مسألة إحياء الخلافة لتكون العامل السياسي الذي يُعيد تشكيل شرق أوسط جديد. والحق أن هناك التباسًا شديدًا في المقارنة بين الموقفين، موقف تركيا الحالي وموقف الإخوان المسلمين من مسألة الخلافة. إذ تبدو الصورة من بعيد متطابقة أو شبه متطابقة، إلا أن الدراسة العميقة للأمر توضح عكس ذلك. أطلق البعض على السياسة التركية في المنطقة العربية مصطلحًا ذا بُعد تاريخي وهو “,”العثمانية الجديدة“,”، ورأى في ذلك محاولة لإحياء الخلافة وعودة ل“,”العنطزة“,” التركية من جديد. لكن من يدرس تركيا الحالية يدرك أن أردوجان ورفاقه لم يدخلوا كهف التاريخ، بل على العكس من ذلك خرجوا منه في محاولة لاستشراف مستقبل جديد دون قطع الصلة تمامًا بالقديم. إذ ابتعدت السياسة التركية الحالية تمامًا عن العقائدية والانحباس في مقولات تاريخية جاهزة ومعلبة، إذ اتسمت هذه السياسة بما يمكن أن نطلق عليه (البرجماتية). وكان أحمد داود أوغلو هو مهندس السياسة الخارجية الجديدة إذ طرح تصور جديد لتركيا كدولة “,”جسر“,”، أي جسر يربط بين الشرق والغرب. وحاول قدر الإمكان توظيف عوامل الجغرافيا والتاريخ في خدمة هذه السياسة، فبالنسبة له فإن تركيب تركيا الإقليمي المتعدد يمنحها القدرة على المناورة في العديد من المناطق. فتركيا هي دولة آسيوية وأوربية وعلى مقربة أيضًا من القارة الإفريقية عن طريق البحر المتوسط، كما أصبحت تركيا عضوًا مراقبًا في منظمة الاتحاد الإفريقي. كما شاركت تركيا على مستوى وزراء الخارجية وعلى مستوى رؤساء الوزراء في اجتماعات جامعة الدول العربية. ويؤكد أوغلو على السياسة الخارجية المتعددة الأبعاد، وهو مبدأ يسعى لإبراز علاقات تركيا الاستراتيجية مع أمريكا والناتو، وكذلك سياسة حسن جوار مع روسيا وأوراسيا على نفس الوتيرة. من هنا يأتي ما نراه اليوم من الانخراط المتزايد لتركيا في شئون العالم شرقه وغربه. حيث تجاوزت تركيا عقدة التاريخ ولم تقف لتبكي على أطلال الخلافة العثمانية. وعلى العكس من ذلك يأتي موقف جماعة الإخوان المسلمين التي لا تزال حبيسة التاريخ، إذ تأتي مسألة الخلافة لديها كمسألة عقائدية. فمن المعلوم أن إلغاء الخلافة العثمانية في عام 1924 كان من أهم العوامل التي دفعت بالإمام حسن البنا إلى إعلان الجماعة في عام 1928، إذ يرى البنا: “,”أن الخلافة رمز الوحدة الإسلامية ومظهر الارتباط بين أمم الإسلام، وأنها شعيرة إسلامية يجب على المسلمين التفكير في أمرها والاهتمام بشأنها.. والأحاديث التي وردت في وجوب نصب الإمام وبيان أحكام الإمامة لا تدع مجالاً للشك في أن من واجب المسلمين أن يهتموا بالتفكير في أمر خلافتهم.. ويجعلوا فكرة الخلافة والعمل لإعادتها في رأس مناهجهم“,”. والآن ومع وصول الإخوان المسلمين إلى سدة الحكم تصبح مسألة الخلافة من أهم الأمور التي تتطلب اجتهادًا جديدًا من جانبهم. فعلى المستوى المحلي تتناقض فكرة الخلافة مع مسألة القومية المصرية والدولة الحديثة، من هنا التصريح الشهير للمرشد السابق “,”مهدي عاكف“,” (طظ في مصر). وسواء كان هذا التصريح صحيحًا أو اقتطع من سياقه فإنه يوضح مدى ارتباط الإخوان بفكرة الخلافة والصدام في ذلك مع الفكرة القومية والدولة الحديثة. وعلى المستوى الإقليمي تثير الآن مسألة التنظيم الدولي للإخوان الكثير من الحساسية، بل وسوء العلاقات مع بعض الدول العربية الشقيقة، فما كان مقبولاً في زمن سابق لم يعد مقبولاً، والجماعة تحكم أهم دولة عربية وهي مصر. إن مسألة تصدير الثورة أو تصدير “,”الخلافة الإسلامية“,” إلى العالم العربي والإسلامي سوف تثير الكثير من الأزمات الدبلوماسية والسياسية بين مصر وجيرانها. آن الآوان أن تخرج الجماعة من كهف التاريخ وتتعلم من التجربة التركية، وتقدم اجتهادًا جديدًا يتناسب مع العصر، وأن تدرك أن الخلافة هي فترة عشناها، وأن مصر هي التي تعيش فينا.