سيكون علينا أولاً أن نتذكر ونتذاكر حول ماهية تلك (الميدوزا الخفية) المسماة بالدولة العميقة (والميدوزا امرأة متوحشة فى الأساطير الإغريقية).. الدولة العميقة هى فى حقيقة الأمر مجموعة صلبة من التحالفات النافذة داخل الدولة وجهازها البيروقراطى العتيد المحاط بأسوار الأمن السبعة كما تقول الحكاية.. تتكون تلك الدولة من عناصر عديدة المستويات داخل المؤسسات الكبرى.. الشرطة والقضاء والجهاز المصرفى ورجال المال الأقوياء والإعلام.. شبكة بالغة الترابط والتعقيد من المصالح والأعمال والعلاقات والمصاهرات والصداقات والفساد والخراب الهائل الذى يفوق الخيال.. شبكة مصالح سياسية واقتصادية واجتماعية يختلط فيها المدنى بالعسكري.. المحلى بالإقليمى بالدولى متشعبة للغاية تمتلك إمكانات وأدوات مادية ضخمة وإعلامًا وقوى ناعمة هائلة صحفيين وروائيين وشعراء وفنانين ورياضيين . غير أننا من المهم أن نعلم بداية أن (الدولة العميقة) فى مصر بلا أيديولوجيا.. أو أن أيديولوجيتها إن جازت التسمية هى السلطة والقوة والمال(الطعام اللذيذ والشراب واللذيذ والملابس الفاخرة والنساء والمصايف والسفريات).. فى الاتحاد السوفيتى ودول أوروبا الشرقية أو كما كان فى تركيا العلمانية اللا دينية الدولة العميقة كانت مؤدلجة.. صحيح (كده وكده) من أجل منح المشهد هالة وقورة وفخمة.. وأحيلكم إلى مقال كنت قد كتبته من عشر سنوات عما يعرف بشبكة (النومنكلاتورا). تدافع (الدولة العميقة) عن استمرارها بشراسة بالغة وتلصق نفسها بالدولة وهى التى اخترعت تعبير (هيبة الدولة) ذلك التعبير الغامض الذى يتم تركيبه على حمولات لفظية فضفاضة لصنع حالة من حالات الغموض والخوف والرهبة.. فى حين أن المسألة ببساطة كيان يحقق مصالح مجموعات متناثرة تحكم مؤسسات هى أشبه بالنبالات والإقطاعيات الأوروبية القديمة أقيمت تحت ظلال بناء الدولة الحديثة.. ستظل دائمًا هذه الدولة ليست حديثة ولا مكتملة وتحت الإنشاء وفى الانتظار وتحت الخطر دائمًا وتمتلك أدوات العنف المفرط لتحمى نفسها من معارضيها. الدولة العميقة فى مصر تكونت مع بدايات تكون التنظيم الطليعى فى الستينيات على يد (حسنين هيكل وعلى صبرى وأحمد فؤاد وسامى شرف) الذين أجلسهم البكباشى ج.ح.عبد الناصر أمامه وأحاطهم بالدور التاريخى الممدود الذى سيبدأ على أيديهم.. البكباشى كان رجل تنظيمات من الطراز الأول.. رجل مخابرات من الطراز الأول.. رجل تحركات من الطراز هكذا وصفه مدير مكتبه طوال حكمه (سامى شرف) الاسم العلم على دولة الخوف والضياع والرعب المقيم... وللأمانة التاريخية.. التيار الإسلامى العريض أيضًا كان داخله تنظيم مغلق يمتلك مفاتيحه شخصان أو ثلاثة على الأكثر لا يعلم عنه أبناء التيار من الشباب الصادقين النبلاء شيئًا.. هذا التنظيم بدأت قصته من أيام مؤسس الجهاز الخاص (عبد الرحمن السندى) وكان بالأساس يعمل ضد مؤسس الجماعة الأستاذ حسن البنا الذى كان يتحدث عن الإنسان والفكر والتربية والمجتمع وكل مفردات البناء والإصلاح المعروفة.. وبدأ هذه التنظيم فى العمل والتشبيك من منتصف الثمانينيات وبنفس أسلوب التنظيم الطليعى الناصرى.. وخطابه نفس الخطاب وأدواته نفس الأدوات وأهواؤه نفس الأهواء.. وأشير هنا إلى أنه ينبغى أن نفهم وأن نوقن تمام اليقين أن العمل الإصلاحى المستند للفكرة الإسلامية الكاملة لن يتقدم خطوة واحدة إلى الأمام إلا بتطهره من مثل هؤلاء وصبيانهم.. والطهارة التى تحدث عنها النص القرأنى ليست مجرد استخدام الماء فقط.. بل طهارة الفكر والضمير والنفس.. وطبعًا اليد والجيب!!!(إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) سورة البقرة. قصة الزند لم تبدأ بصعوده فى انتخابات نادى القضاة.. بل بدأت قبل ذلك بكثير.. وقبل أن نعرف الحكاية التى تحدثت عنها كثيرًا من قبل أود أولاً أن أسأل سؤالاً بسيطًا.. هل كانت أجهزة المعلومات والرقابة والتتبع تعلم تاريخه قبل ترشيحه للوزارة؟ وتاريخ الرجل من طنطا إلى القاهرة مرورًا بدولة الإمارات معروف جيدًا وبشكل مشين ومهين بدرجة بالغة لصرح العدالة.. وحتى لو كان زملاؤه انتخبوه فى رئاسة نادى القضاة.. فقصة الانتخابات معروفة الدهاليز والخبايا والأيادى السوداء أصبحت ماهرة فى مسائل الانتخابات..؟ ذلك أن بالوعة الألفاظ التى فى فم الرجل تجعلك تشمئز وتتقزز منه.. وما قاله مؤخرًا لا يتعلق بالكفر والإيمان فهو مجرد شخصية كرتونية هشة منسوخة من آخرين إنما يتعلق بتشوهات بالغة فى إدراكاته وتلف هائل بأعلى رأسه..فكيف جاء إذن..؟ هل المسألة اقتصرت على مجرد إظهار الشماتة فى الإخوان والرئيس السابق؟ ثم ما هى حكاية السفر فورًا إلى دولة الإمارات بعد الخروج من دائر السلطة والنفاذ؟ فعلها وزير الداخلية السابق ومن قبله رئيس وزراء مبارك.. وهاهو صاحب الفم النتن يفعلها أيضا ؟ وسمعنا أيضًا أن ضباط أمن الدولة السابقين كلهم ذهبوا هناك بعد 25 يناير وتم احتضانهم وتسكينهم فى أعمال مغرية إلى أن تم استدعاؤهم ثانية بعد 30/6؟ وما موقف النظام من تلك الظاهرة الفريدة فى تاريخنا الحديث؟ ................. تقول الحكاية إن على صبرى الأمين العام للاتحاد الاشتراكى فى الستينيات وأحد أهم ركائز الحكم فى هذه الفترة السوداء نشر فى مارس 1967م تسعة مقالات متتابعة فى جريدة الجمهورية تطالب بضرورة ربط القضاة ب(التنظيم السياسي). مشيرًا إلى العزلة الغريبة التى يعيش فيها القضاء عن العمل السياسي.. وعن كونها (وضعًا موروثًا من قديم اعتمد على شعار منعزل ساد المجتمع ودعا إلى الفصل التام بين السلطات بحيث تكون هناك السلطة القضائية والتشريعية والتنفيذية بمعزل كل منهم عن الأخرى وهى نظرية غير واقعية وليست مطبقة بهذا الشكل النظرى فى أى مجتمع من المجتمعات. فرجال القضاء فى المجتمع الرأسمالى ينتمون إلى الطبقة صاحبة المصلحة فى المجتمع انتماء الحياة والفكر والتفاعل...) كان هناك عدد من القضاة يؤيدون هذه الدعوة داعين إلى أن يكون للقضاة تنظيمهم الخاص بهم داخل الاتحاد الاشتراكى ولكنه ظهرت وجهة نظر أخرى وكان يمثلها غالبية القضاة ترفض الانضمام إلى الاتحاد الاشتراكى وتطالب بالإبقاء على نظرية الفصل بين السلطات واعتبروا أن الإخلال بها هدم لاستقلالية القضاء وعضويتهم بالاتحاد الاشتراكى هو اشتغال بالسياسة وهم كسلطة مستقلة لا علاقة لهم بالسياسة على الإطلاق كما أن قانون السلطة القضائية بنص المادة73 يحظر على القضاة الاشتغال بالعمل السياسي. ولجأ البكباشى سليل التنظيمات السرية لطريقته القديمة الخبيثة وطلب من شعراوى جمعة وزير الداخلية وقتها تشكيل (تنظيم سري) داخل صرح العدالة بعد أن رفض عصام حسونة وزير العدل وقتها القيام بتلك المهمة.. وفعلها الرجل بكل افتراس وقهر وسفالة.
إلى أن جاء موعد الجمعية العمومية لنادى القضاة فى 28 مارس 1968 وفى نهاية الاجتماع تلى مشروع بيان تصدره الجمعية العمومية ووسط عاصفة مدوية من التصفيق والاستحسان أقرت الجمعية العمومية هذا البيان الذى جاء فيه أن (صلابة الجبهة الداخلية تقتضى إزالة المعوقات كافة أمام حرية المواطنين وتأمين الحرية الفردية لكل مواطن فى الرأى والكلمة والاجتماع وفى النقد والاقتراح وكفالة الحريات لكل المواطنين وسيادة القانون وقيام سلطة قضائية حرة مستقلة ينفرد الدستور بتأكيد استقلالها وتأكيد ضمانات أعضائها يعد ضمانة أساسية من ضمانات الشعب ودعامة أساسية من دعامات صلابة الجبهة الداخلية وضرورة بقاء النيابة جزءًا لا يتجزأ من السلطة القضائية).. وكان المجتمع كله يدفع ثمن هزيمة الرئيس والمشير فى 1967.. أفضح هزيمة فى التاريخ الحديث. بعد عام كامل من صدور البيان كانت الأزمة تتصاعد بحدة بالغة.. وحان موعد انتخابات نادى القضاة فى 21مارس 1969 وفازت القائمة التى كان يتصدرها المستشار ممتاز نصار والمستشار يحيى الرفاعى رحمهما الله.. وهى قائمة (المرشحون الأحرار) واعتبرت نتيجة الانتخابات انتصارًا كبيرًا ضد البكباشى المجروح من الهزيمة ونظامه العربيد . الذى أصدر فى 31أغسطس 1969 قرارًا بعزل189 من رجال القضاء وفى مقدمتهم قائمة بأعضاء مجلس إدارة النادى وحل نادى القضاة ومنع القضاة الذين ذبحوا من القيد فى نقابة المحامين بل ومنع سفرهم للعمل فى الخارج.. بغرض إذلالهم عن طريق تجويع أبنائهم وزوجاتهم وأمهاتهم .. وكانت تلك الطريقة الخسيسة الدنيئة طريقة البكباشى الأثيرة فى الانتقام ممن تسول له نفسه قول (لا..).
وللأمانة التاريخية أيضًا تلك الطريقة يستخدمها عدد من قادة الإسلاميين ضد من يجرؤ على قول(لا..) ممن يعمل معهم ويخالفهم.. وحين تنتهى تلك العاصفة الغبراء سنسمع ونقرأ من المخزيات ما تشيب له سود النواصى كما يقول الشعراء. ..... يقولون إن قصة (مذبحة القضاء)عام 1969.. هى الرحم التى أنتجت أمثال ذو الفم النتن(المنافق محب الحظائر القذرة).. وهى كما رأينا ونرى قصة طويلة وعميقة الجذور وموصولة بحكم (أقلية فئوية) وصدق من قال (عزل الجيش الملك ليحتل محله..) ويقضى على المجتمع السياسى الذى تكون بين 1923 و1952 وينشئ نظامًا يقوم على البيروقراطية الأمنية وامتداداتها فى الدولة العميقة.