بعد تحرير فرنسا من الاحتلال الألماني سأل ديجول من حوله عن أحوال المجتمع والدولة فجاءته الإجابة أن الفساد بلغ أوجه مع حكومة الجنرال بيتان الذى تعاون مع الألمان وشكل حكومة عميلة للاحتلال.. فسأل عن القضاء والتعليم فجاءته الإجابة أنهما بخير فقال قولته الشهيرة إذن فرنسا بخير.. الأمة بخير طالما كان التعليم والقضاء فيها بخير.. والعكس صحيح تمامًا.. وكانت مصر قد بدأت فى هذين القطاعين نهوضًا مبكرًا وما كاد القرن السابق ينتصف حتى كانت مصر تعلم الدول العربية كيف تكون المدرسة والجامعة وكيف يكون القانون والمحكمة.. حتى جاءت حركة الضباط 1952م.. وبدأت معها قصة الاضمحلال الكبير لأهم أعمدة الأمة. سيكون مع التعليم حديث طويل فى مقال آخر كيف بدأه محمد على وكيف دمره الطغاة الثلاثة. البداية كانت بالقضاء وسلطته وهيبته.. وما كان ضرب فقيه مصر العظيم العلامة السنهوري بالأحذية في مجلس الدولة سنة 1954م وهو من هو في الضمير القضائي إلا الخطوة الأولى. بعدها بسنة واحدة فى 20مارس 1955م تم فصل 18 عضوًا من أعظم قضاة مجلس الدولة وتعيين أعضاء جدد بدلًا منهم.. وبعدها بثلاثة أيام صدر القانون 165 لسنة 1955م في شأن تنظيم مجلس الدولة. لكن الهدم الكبير كان في المذبحة الشهيرة في 31أغسطس 1969م. وقصة هذه المذبحة تشهد مصر الآن أحد توابعها الأليمة.. فالمسألة لم تكن مجرد فصل 189 رجلًا من خيرة رجال القضاء والنيابة وقتها..القصة كانت في تشكيل وعي جديد في العلاقة بين القضاء والسلطة والمجتمع.. كان الضحية الكبرى فيها أهم ما يميز القاضي والقضاء وهو الاستقلال. القصة بدأت فى مارس 1967 بنشر على صبري الأمين العام للاتحاد الاشتراكي وقتها وأحد أهم ركائز الحكم فى هذه الفترة السوداء لتسعة مقالات متتابعة تطالب بضرورة ربط القضاة ب(التنظيم السياسي). قصة (التنظيم )هذه ستسمعها كثيرًا استفتاحًا لكل كارثة حلت بهذا الوطن.. والمعروف أن عبد الناصر كان شغوفًا إلى حد الهوس بمسألة التنظيمات السرية.. وكانت تلك التنظيمات أحد أهم أدوات سيطرته الكاملة.. نتذكر أنه كان أول وزير للداخلية !! بعد الحركة المباركة أقام فيها تنظيمه السري وسلمه لزكريا محيي الدين وغادر المنصب وأمسك في قبضته أهم جهاز في البيروقراطية المصرية العتيقة.. كان الرجل يتوق بقوة إلى بناء سلطة الدولة في أشد صورها القهرية والقمعية. عودة إلى مقالات على صبري التي تحدثت عن العزلة الغريبة التي يعيش فيها القضاء عن العمل السياسي.. وعن كونها (وضعًا موروثًا من قديم اعتمد على شعار منعزل ساد المجتمع ودعا إلى الفصل التام بين السلطات بحيث تكون هناك السلطة القضائية والتشريعية والتنفيذية بمعزل كل منهم عن الأخرى وهي نظرية غير واقعية وليست مطبقة بالشكل النظري هذا في أي مجتمع من المجتمعات. فرجال القضاء في المجتمع الرأسمالي ينتمون إلى الطبقة صاحبة المصلحة في المجتمع انتماء الحياة والفكر والتفاعل وهم فى أدائهم لمهمتهم يطبقون القوانين التى تضعها الطبقة صاحبة السلطة والسيطرة والمنفعة... وينظرون في تطبيق العدالة والقانون بمفهوم هذه الطبقة بحكم انتمائهم إليها وارتباطهم واقعيًا ومصلحيًا بها.) وكان عدد من القضاة يؤيدون هذه الدعوة وأن يكون للقضاة تنظيمهم الخاص بهم داخل الاتحاد الاشتراكي ولكنه ظهرت وجهة نظر أخرى وكان يمثلها غالبية القضاة ترفض الانضمام إلى الاتحاد الاشتراكي وتطالب بالإبقاء على نظرية الفصل بين السلطات واعتبروا أن الإخلال بها هدم لاستقلالية القضاء وعضويتهم بالاتحاد الاشتراكي هو اشتغال بالسياسة وهم كسلطة مستقلة لا علاقة لهم بالسياسة على الإطلاق، كما أن قانون السلطة القضائية بنص المادة73 يحظر على القضاة الاشتغال بالعمل السياسي. ولجأ عبد الناصر لطريقته القديمة الخبيثة وطلب من شعراوي جمعة وزير الداخلية وقتها تشكيل تنظيم سري داخل مرفق العدالة.. بعد أن رفض عصام حسونة وزير العدل وقتها القيام بتلك المهمة.. وفعلها الرجل بكل افتراس وقهر. وجاء موعد الجمعية العمومية لنادي القضاة فى28مارس1968 وعقدت الجمعية اجتماعها العادي وكان جدول الأعمال يتضمن المسائل التقليدية لأية جمعية عمومية لنادٍ اجتماعي وثقافي (نادي القضاة أنشئ سنة 1939 ليقوم على توثيق رابطة الإخاء والتضامن بين رجال القضاء وتسهيل سبل الاجتماع والتعارف بينهم) إلا أنه تلي مشروع بيان تصدره الجمعية العمومية ووسط عاصفة مدوية من التصفيق والاستحسان أقرت الجمعية العمومية هذا البيان الذى جاء فيه أن صلابة الجبهة الداخلية تقتضى إزالة المعوقات كافة أمام حرية المواطنين وتأمين الحرية الفردية لكل مواطن فى الرأي والكلمة والاجتماع وفي النقد والاقتراح وكفالة الحريات لكل المواطنين وسيادة القانون وقيام سلطة قضائية حرة مستقلة ينفرد الدستور بتأكيد استقلالها وتأكيد ضمانات أعضائها يعد ضمانه أساسية من ضمانات الشعب ودعامة أساسية من دعامات صلابة الجبهة الداخلية وضرورة بقاء النيابة جزءًا لا يتجزأ من السلطة القضائية. بعد عام كامل من صدور البيان كانت الأزمة تتصاعد وحان موعد انتخابات نادي القضاة في 21مارس 1969 وأجريت الانتخابات وسط جو ملتهب وكان الصراع عنيفًا وسط رجال القضاء بين الذين يؤيدون دخول القضاة مجال العمل السياسي وأطلق عليهم اسم (مرشحو السلطة) وبين الذين يطالبون بأن يبتعد القضاة عن العمل السياسي وكانوا يطلقون على أنفسهم (المرشحون الأحرار) وفازت القائمة التي كان يتصدرها المستشار ممتاز نصار والمستشار يحى الرفاعي رحمهما الله.. وهى قائمة (المرشحون الأحرار) واعتبرت نتيجة الانتخابات انتصارًا كبيرًا ضد عبد الناصر ونظامه. وكانت النتيجة كصرخة من الحلقوم تدعو الدولة العتيدة إلى الإنصات إليهم. وفي 31أغسطس 1969 أصدر عبد الناصر عددًا من القوانين بتفويض من مجلس الأمة إحداها إنشاء المحكمة العليا(الدستورية) والثاني إعادة تشكيل الهيئات القضائية والثالث بوضع نظام جديد لنادي القضاة وحلت جميع الهيئات القضائية وأعيد تشكيلها من جديد مغفلة 189 من رجال القضاء تم عزلهم وفي مقدمتهم قائمة بأعضاء مجلس إدارة النادي وحل نادي القضاة ومنع القضاة الذين ذبحوا من القيد في نقابة المحامين بل ومنع سفرهم للعمل في الخارج.. بغرض إذلالهم عن طريق تجويع أبنائهم وكانت تلك الطريقة الخسيسة طريقة عبد الناصر الأثيرة في الانتقام ممن تسول له نفسه رفع رأسه أمامه. تعد أحداث (مذبحة القضاء) عام 1969أخطر معركة سياسية وفكرية ذات طابع قانوني منذ عرفت بلادنا الأفكار القانونية الحديثة فى أواسط القرن التاسع عشر وانتصر فيها عبد الناصر وهزمت مدرسة القضاء الشامخ. وتوالد رجال عبد الناصر وتكاثروا كثيرًا. واتخذ المنحنى مسار الهبوط.. الحق قديم.. ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل.