عندما شرع عبد الناصر إلى ترويض مصر بكل مؤسساتها لتُطوع تحت إمرته، بدأ تلك المهمة الصعبة بركائز أساسية فى المجتمع المصرى كان منها الأزهر والقضاء. عمد عبد الناصر إلى تسييس القضاء والقضاة، بمحاولة انضمامه إلى النظام الاشتراكى فأحدث جدلاً واسعاً بين القضاة عن إمكانية ذلك من عدمه ؟! فمنهم من أيد الفكرة ومنهم من رفضها. بدأت الأزمة فى 1967 عندما نشرت جريدة الجمهورية عدة مقالات تتحدث فيها عن رغبة النظام الحاكم فى ضم فئات مثل الجيش والشرطة والقضاء فى تحالف قوى الشعب العامل، وأفصح عن رغبته فى ضرورة ربط القضاة بالتنظيم السياسى وانتقد فيه عزلة القضاء عن العمل السياسى والذى لابد وأن يكون له دور كباقى فئات الشعب المصرى، وهاجم أصحاب ذلك الرأى نظرية الفصل التام بين السلطات وأن الفصل بين السلطة القضائية والتشريعية والتنفيذية هو شىء وهمى لا طائل منه متعللاً بأن رجل العدالة لابد وأن يكون غير معزول عن المجتمع لكى يشعر بنبضهم ويتفاعل مع مشاكلهم، وهو حق أريد به باطل. وظهرت دعوة صريحة من أحد ركائز التنظيم السياسى الناصرى "على صبرى" والذى نادى بانضمام القضاة إلى الاتحاد الاشتراكى. تباينت ردود أفعال القضاة حيث وافق بعضهم على تلك الفكرة مشترطاً أن يكون لهم تنظيم سياسى خاصاً بهم داخل الاتحاد الاشتراكى، غير أن غالبية القضاة رفضوا تلك الفكرة وتمسكوا باستقلالية القضاء عن بقية مؤسسات الدولة وضرورة عدم الانخراط فى العمل السياسى، وهو ما يتعارض مع دور رجل القضاء الحيادى لأنه يفصل بين كل فئات المجتمع، ومن هنا تسربت شريحة من القضاة لتخرج عن قالبه المألوف لتقرر أن تلعب سياسة وتخلط الأمور ببعضها. ثم جاءت انتخابات نادى القضاة فى 1969 بين الفريق المؤيد للاندماج فى الاتحاد الاشتراكى والعمل بالسياسة وعرفوا بمرشحى السلطة والفريق الثانى وهو الذى يتمسك باستقلالية القضاء والفصل بين السلطات وعدم ممارسة السياسة وعرفوا بالمرشحين الأحرار والذين فازوا باكتساح، ومن بعدها حدث تحول كبير فى الفريقين حيث أقر أحدهما العمل بالسياسة وأصبح الثانى معارضاً لنظام عبد الناصر رافضاً لأفكاره. بدوره قام عبد الناصر بالرد المباشر على تلك المعارضة بإنشاء المحكمة العليا وإعادة تشكيل الهيئات القضائية ووضع نظام جديد لنادى القضاة يقوم على أساس التعيين وتم عزل 189 من رجال القضاء والتى أطلق عليها مذبحة القضاء. ومن الشهادات الواضحة الثرية شهادة للمستشار "يحيى الرفاعى" سكرتير عام نادى القضاة وأحد الذين تم عزلهم فى تلك المذبحة، حيث صرح بأن عبد الناصر كان يُلح على المستشار "عصام حسونة" وزير العدل آنذاك بأن يشكل تنظيماً سرياً من القضاة فرفض الوزير فى تصميم وشموخ لتعارض تلك الفكرة مع أخلاقيات القضاة، فكلف عبد الناصر "شعراوى جمعة" وزير الداخلية بتشكيل جماعة قيادية لهذا التنظيم من رجال القضاء ومجلس الدولة وإدارة قضايا الحكومة والنيابة الإدارية وأسماهم هيئات قضائية، ومن هنا وُجد القاضى المتحزب والمنتمى سياسياً من غير أن يعلن ذلك صراحة بل يظهر ذلك فى توجهاته وآرائه مما انعكس فى تناوله للقضايا فكان ذلك خلقاً لأشباه القضاة غير أن الغالبية ظلت على توازنها وحيادها وظلوا وسيظلون مصابيح تنير الطريق لأمة اتخذت من القضاء الشامخ دليلاً لتحقيق العدل والعدالة. لا يليق بالقاضى أن يكون له انتماء أو لون سياسى معين أو أن يعمل بالسياسة بأى وجه من أوجهها أو درجاتها، حيث لابد وأن يتسم بالحيادية المطلقة لقيامه بالفصل بين مختلف طوائف المجتمع، فلا يجوز تسييس القضاء لأن ذلك سيكون طعناً فى القضاء والقضاة وسيفتح مجالاً للشك فى مصداقيتهم، كما أنه يضعه تحت ضغوط يمكن أن تؤثر فى قراره على منصة الحكم. لا شئ فوق مصر، ولا شئ فوق العدالة، ولا حصانة لشخص أو كرسى إنما حماية لدوره ومهمته المنوط بها أن يؤديها بنزاهة وحيادية. لابد من إعادة صياغة القوانين بحيث تعبر بصدق عن المجتمع وتدافع عن حقوقه ويراعى روح التطور فى المجتمع بحيث لا يصاب بالجمود فتوقف الزمن وأن يتحقق انسجاماً بين السياسة والقانون الذى لابد وأن يتحلى بروحه قبل نصوصه فالمصلحة تعلو فوق النصوص. تخرج علينا العدالة وهى معصوبة العينين لفرض حيادها وهو ما نرجوه، لا لأن تكون عديمة الرؤية لحقيقة ظاهرة كوضوح الشمس. نريد عدالة مبصرة تفرق بين الظالم والمظلوم وتفصل بالعدل بين الحقوق.