بعد أن يحسم البكباشى ج.ح.عبد الناصر لصالحه صراعه مع اللواء أركان حرب محمد نجيب الذى تحمل المسؤولية الكاملة عن كل ما جرى ليلة 23 يوليو 1952 سيكون عليه حتى يستتب له التفرد والتلذذ بالسلطة والقوة مواجهة ثلاثة كيانات صلبة وراسخة (الجيش والقضاء والإخوان). وسيكون على مصر الحديثة وشعبها الكريم سداد ثمن غال.. وغال جدًا نتيجة هذه المواجهة.. وهو الثمن الذى لازال يسدد حتى يومنا هذا بتكلفة باهظة تتزايد وتتعاظم كل يوم.. ليس فقط مما يحدث فى سيناء من قتل يومى لأعز أبنائنا وإخوتنا .. وليس فقط مما يحدث أمام أعيننا فى منظومة العدالة التى لم تعرف فى تاريخها كله أحكاما بالإعدام كما عرفت هذه الأيام.. وليس فقط مما نسمعه ونقرؤه عن الدين وعلمائه العظماء.. ليس فقط كل ذلك. ولكن _ وهذا هو الأهم سداد الثمن هدما وتضييعا وتدميرا (للشخصية) المصرية ذاتها.. وبنيتها العقلية والأخلاقية والثقافية وحتى البدنية. كيف حدث هذا كله؟.. وكيف تزايد وتضاعف؟.. والأفدح كيف هو مستمر؟؟ سيكون على البكباشى الجموح تأمين الجيش أولا ثم إخراجه من الحكم ثانيا.. فينجح فى الأولى بتعيين (أخيب) ضابط عرفته العسكرية المصرية (صديقه الأنتيم عبد الحكيم عامر والذى سيغتاله بعد ذلك) وزيرا للحربية بعد ترقيته من رتبة بكباشى (مقدم) إلى رتبة لواء.. ويفشل فى الثانية.. ويترتب على الاثنين هزيمة كل يوم (5 يونيو 1967م ) بكل ما أخرجته وتخرجه من هزائم اجتماعية وأخلاقية وعلمية وحضارية.. وللموضوع تفاصيل سوداء ليست هى موضوع المقال. وسيكون عليه إعمال آلة الاعتقال والتعذيب والإعدام فى الإخوان.. فيترتب على ذلك نشوء أفكار التكفير والتطرف وثقافة الزنازين والعمل السرى المغلق.. وليأتي اليوم الذى يسمع فيه المصريون من يسب الأئمة الأربعة والبخارى فى الإعلام نهارا جهارا وهم صامتون.. وللموضوع تفاصيل مرعبة ليست هى أيضا موضوع المقال. وسيكون عليه ضرب العلامة السنهورى رمز العدالة والقانون والقضاء فى مصر الحديثة بالأحذية فى قلب مجلس الدولة.. وهو الرمز والأيقونة لحصن القضاء.. ليكون عبرة لهذا الحصن الحصين الذى عرف رجاله بالترفع والأنفة والكرامة.. ليقضى بذلك على الضلع الثالث فى مثلث العافية والقوة الوطنية.. إذا جاز التوصيف. ....... وعلى الرغم من السهولة والسرعة التى أنهى بها البكباشى مواجهته مع الجيش والإخوان.. إلا أنه كان (لئيمًا) فى المواجهة الأهم والأخطر مع القضاء.. فتمهل حتى أتم اختراقه من داخله.. ثم بدأ تنفيذ مخططه.. وليستيقظ المصريون يوم 18 مارس 1967 م _ تذكروا هذا التاريخ _ على المقالة الأولى من تسع مقالات كتبها على صبرى الأمين العام للاتحاد الاشتراكى وقتها.. تمهيدا للاختراق الكبير.. يقول فيها إن رجال العدالة لا يجب أن يقفوا بعيدا عن نضال قوى الشعب العاملة ولا يجب أن يكونوا طبقة منفصلة عن المجتمع فتصبح أحكامها فى غير صالح المجتمع.. أو كما قال لصالح المستغلين والمنحرفين الذين لم تصدر ضدهم أحكام لعدم ثبوت الجريمة، حيث إن التفتيش كان باطلا أو لعدم كفاية الأدلة للإدانة.. يقول الرجل صراحة إنه يجب إملاء الأحكام التى يجب أن تصدر ضد الذين يرى التنظيم السياسى أنهم يعملون ضد مصالح المجتمع بصرف النظر عن القواعد القانونية والأدلة التى تتطلبها إدانة أى منهم.. ستسمع كثيرا جملة (أحكام قضائية) ضد من يبدى دهشته من تتبع المعارضين وملاحقتهم (قضائيا).. وهى الأحكام التى صدرت على طريقة (على صبرى) كما رأينا. سيحكى القصة كلها بعد ذلك الأستاذ صلاح منتصر فى مقال نشرته الأهرام فى 20 مارس 1983م تحت عنوان (غزوة القضاء) يقول فيه متهكما: فى الوقت الذى كان اهتمام العالم فيه مركزا منذ بداية الستينيات على ملاحقة السباق الكبير الذى بدأ بين الدولتين العظميين أمريكا وروسيا لغزو الفضاء كان من بين اهتمام السلطة فى ذلك الوقت ترتيب عملية (غزو القضاء). بدأت المعركة باختيار المستشار محمد أبو نصير وزيرا للعدل وهو الرجل لذى كانت له اليد الطولى فى إصدار قانون خاص سنة 1955م بتصفية مجلس الدولة من القامات الكبيرة التى كانت تريد كبح جماح (البكباشى).. جاء السيد الوزير ليدير المعركة علنا عن طريق حركة الترقيات والتنقلات والندب (ستتطور هذه الإغراءات فيما بعد إلى ما يفوق ذلك كثيرا).. وليبدأ فى تفعيل (المجموعات الخفية) التى كانت تنظيما سريا داخل القضاء.. كان هناك أكثر من مجموعة (كلاستر).. تعمل فى صور منفصلة يقود كل منها أحد البارزين فى (دولة البكباشى) آنذاك.. ويحكى لنا الدكتور حسين مؤنس عن ذلك فى كتابه الشهير (باشوات وسوبرباشوات) حكاية طريفة كانت بطلتها الشيخة نظيرة!!.. يقول: (المأساة لم تكن فى قبول الذين يحملون وسام العدل مهمة التجسس على زملائهم وكتابة تقارير عن تحركاتهم وأنشطتهم.. إنما كانت المأساة الأكبر فيما تتضمنه بعض هذه التقارير التى كانت ترفع لرئيس الجمهورية شخصيا!!.. مثل هذا التقرير عن الشيخة نظيرة التى طلب منها كاتب التقرير الدعاء لسيادة الرئيس التى قالت: أنا داعياله.. وقلبى داعيله.. ده ملاك.. هو جالى وأنا باشوفه فى الباطن وربنا راضى عنه.. ويستمر التقرير المكتوب لسامى شرف سكرتير رئيس الجمهورية لشئون المعلومات ليطلب توفير سيارة خاصة لزيارة أحد الأضرحة لتدعو الله فى مسجد صاحب الضريح لسيادة الرئيس.. ويختم تقريره دمتم أخى العزيز سندا لنضالنا ويكتب اسمه وتوقيعه) وليوقع عليه رئيس الجمهورية بنفسه بالموافقة.. وتوفيرتذكرة قطار للشيخة نظيرة ..!! ويكمل الأستاذ صلاح منتصر مقالته _التاريخية!_ عن (غزوة القضاء) فيحكى الموقف المعروف بفوز المستشار ممتاز نصار والمستشار يحيى الرفاعى: (هل تذكرون مؤتمر العدالة الأول الذى عقد سنة 1986م ..؟؟) ومن معهم من رجالات القضاء الكبار فى انتخابات نادى القضاة عام 1969م وليصدر بعدها خمسة قرارات بقوانين تحمل الأرقام من 81 إلى 85 ليتم استبعاد 200 اسم أولهم أعضاء مجلس إدارة نادى القضاة الذين أشارت التقارير إلى أن لهم (نشاطا وطنيا).. وأكثر من نصف محكمة النقض.. وبعض الذين اشتركوا فى إصدار أحكام لم ترض عنها السلطة. انتهى كلام الأستاذ صلاح منتصر عن (غزوة القضاء) والتى فيما يبدو لم تكن مجرد غزوة.. كانت فى حقيقة الأمر معركة كبرى أسست عمقا لما بعدها. ما أقوله ليس مأتما من مآتم النفوس أو مناحة من مناحات القلوب.. ولا نظرة حائرة غارقة فى الأسى والأسف.. لا إلى هذا ولا ذاك قصدت، ما قصدته هو الإشارة القوية إلى أماكن (أوجاعنا).. توليدا لذات جديدة.. وثقافة جديدة.. بل وخطوات جديدة. ولعلنا ننتبه إلى أهمية اللحظة التاريخية التى نمر بها.. ولا أبالغ إذا قلت إن كل هذا الحاضر هو من صنع كل ذاك الماضى الذى نذكره بكل الحسرة والأسف.. وانظروا جيدا فى كل ما حولكم ستجدونه فى اليمن وسوريا وليبيا وإسرائيل.. ستجدونه فى داعش والبيشمركة.. ستجدونه فى فضائيات (المراحيض).. ستجدونه خلف الأسوار وأمام الأسوار.. ستجدونه فى وجوه الناس فى الطرقات والمنازل والحقول.. ستجدونه فى كل مكان.. ومن جمع بين الحق والباطل لم يجتمعا له وكان الباطل أولى به.