د. فينيس جودة: مؤسسات الدولة تكرم الفنانين والرياضيين وأسقطت العلماء والعقول من حساباتها د. علاء إدريس: خلل منظومة البحث العلمي "طفشت" العلماء والمبتكرين والمخترعين
د. هاني الناظر: هروب العقول الصغيرة جرس إنذار ونحتاج لاستراتيجية متكاملة لاحتوائها
د. إيهاب داود: الوزراء في مصر لا يعلمون أن هناك اختراعات سنويًا يقدمها مبتكرون مصريون
"لست خائنًا.. ولكن مثلي ليس لهم مكان في مصر.. لذلك لن أعود إلى أن يحترموا العقول.. ويصبح لنا موطئ قدم في صناعة مستقبلنا".. كلمات بسيطة عبر عنها المخترع المصري الصغير الطالب مصطفى الصاوي الذي أثار جدلاً واسعًا عقب هروبه إلى دولة الإمارات وحصوله على جنسيتها لتمثيلها في المحافل الدولية، فهو طبقًا لرؤيته مثل أي شاب مصري يحلم بفرصة حقيقية ولكنه للأسف لا يجدها في وطنه الأم، فيضطر للهروب "بجلده" إلى دولة تقدر عقله. مصطفى الصاوي، رغم حداثة سنه الذي لم يتخط ال17 عامًا بعد، أدرك الحقيقة المُرة، فرغم ما حققه منذ عام 2014 من إعجاز علمي لم يلتفت إليه أحد في هذا البلد البائس، وبمجرد أن عرضت "مدرسة دبي للتربية الحديثة" أن تتكفل بكل المصاريف والإقامة وتوفير جميع المستلزمات والأبحاث والمعامل حتى يستطيع العمل في بيئة صالحة، لم يتردد وأسرع لينجو بأفكاره حتى ترى النور قبل أن تتجمد في ثلاجات الحكومة التي تكتظ بالفعل بأكثر من 26 ألف فكرة عبقرية.
السد الذكي: تتلخص فكرة المخترع الصاوي في تصميمه لأول سد ذكي يمكنه إنتاج أكبر طاقة كهربائية متجددة على مستوى العالم، عبر دمج ثلاث طاقات متجددة، مع بعض التعديلات الهندسية في كل مصدر من الثلاثة، بحيث يصل الإنتاج إلى 33.1 جيجا في الساعة الواحدة، وعملية تحلية للمياه بتكلفة 20% فقط من التحلية الدولية، وتم تجريبه أكثر من 27 مرة، إلى أن تم الوصول إلى التجربة النهائية الناجحة، فحصل من خلالها على جائزة أفضل باحث على مستوى العالم. الكارثة الحقيقية أن هذا المخترع الصغير فشل فشلاً ذريعًا في اللحاق بقطار الإبداع المتجه إلى بريطانيا للاشتراك في بطولة العالم للمبدعين العرب في لندن "معهد بحوث لندن" لتمثيل جامعة المنصورة، بعدما أنهى التجارب العملية داخل المعامل البحثية في جامعة المنصورة، وتم اختياره ضمن أفضل 3 مشاريع للتمثيل في النهائيات، ثم تم اختياره للسفر إلى إنجلترا، لعرض بحثه بعد التحكيم المبدئي، لكن بسبب بعض الإجراءات الروتينية الخاصة بالتأشيرة، لم يستطع السفر، وأجرى المسابقة عبر "فيديو كونفرانس"، ورغم ذلك تم اختياره كأفضل باحث علمي عربي على مستوى العالم، في مسابقة لندن للعلوم والتكنولوجيا، لذلك اضطر للموافقة على الجنسية الإماراتية للاشتراك في المعرض الدولي الثامن للاختراعات على مستوى العالم.
الصدمة الثانية: وبعد أقل من 72 ساعة كان الشارع المصري مع صدمة جديدة، فقد اضطر عقل صغير آخر للفرار إلى الإمارات التي قررت فجأة أن تستحوذ على عقولنا الشابة، طالما أن حكوماتنا المصرية لا تهتم سوى بلاعبي كرة القدم وبالفنانين، فقد أعلن "أحمد الطماوى" المبتكر المصرى صاحب فكرة وضع الإعلانات على تذكرة المترو عن موافقة وزارة النقل الإماراتية على تنفيذ فكرته نظرًا لأنها لم تنفذ بمصر. فكرة المخترع الطماوي وهو طالب في كلية حقوق جامعة القاهرة، تعتمد على استغلال الميديا والدعاية والإعلان على وجه تذاكر المترو، لتحويل القيمة المهدرة إلى قيمة مضافة، والاستفادة من أربعة ملايين تذكرة تباع يوميًا بمحطات المترو في مصر، ورغم اجتماعه بوزير النقل السابق المهندس هاني ضاحي، ولكنها لم تخرج إلى النور حتى الآن.
قبل أن نتهم "الصاوي والطماوي" بالخيانة العظمي، وموافقتهما على بيع مصر بحفنة "دولارات"، هل سألنا أنفسنا يومًا، كم مرة اضطر رئيس جمهورية مصر بالانتقال إلى مطار القاهرة لاستقبال أي من عقولنا المصرية؟ وكم مرة تعطف وتكرم باستقبال لاعبي كرة القدم؟، كم مرة استقبل الفنانين وكرمهم ومنحهم الدعم الكامل؟، رغم اللغو الكثير الذي نسمعه منهم حول أهمية العقول الشابة في تقدم هذه الأمة، ولكنه يبقي مجرد كلام لم يتحقق منه شيء على أرض الواقع. ومَن يتابع إحصاءات مكتب براءات المصري سيجد أن المكتب المصري سجل طوال 62 عامًا ما يقرب من 26 ألف براءة اختراع، 80% منهم لمخترعين أجانب، أي ما يعادل 20 ألف براءة اختراع، معني هذا أن العقل المصري لم ينتج سوى 6 آلاف اختراع طوال ستة عقود أي بمتوسط 96 اختراع مصري سنويًا، والأكثر من ذلك أن نسبة تطبيق تلك الاختراعات في مصر لم تتجاوز 2-3% فقط، أي أن كل ما تم إنتاجه صناعيًا وتطبيقه على أرض الواقع لم يتخط ال120 براءة اختراع، أي بمتوسط ما يعادل اختراعين فقط سنويًا. "كعب داير".. هذا أكثر ما يتفرغ له المخترع المصري بحثًا عن شهادة اعتراف وأمان لابتكاره، فالمخترع في ظل الروتين والاتفاقات الدولية التي تحاصره تجعله يعيش "كعب داير" لأكثر من 35 شهرًا دون أن تصدر له البراءة، ثم بعد ذلك يضطر للعمل بمبدأ "اخدم نفسك بنفسك.. وابحث عن مصدر تمويل". في البداية اعترضت الدكتورة فينيس كامل جودة، وزيرة الدولة للبحث العلمي الأسبق، على الهجوم الكبير الذي تعرض له مصطفى الصاوي "المخترع الصغير" واتهامه بالخيانة لمجرد حصوله على الجنسية الإماراتية، قائلة: "إن الأمر لا يعيبه على الإطلاق ولا يمكن وصفه بالخيانة، فهو لم يتنازل عن جنسيته المصرية وإنما حصل على جنسية أخرى كنوع من التكريم بصفته عبقري، شأنه شأن الكثير من العلماء المصريين الذين يحملون جنسية مزدوجة كالدكتور أحمد زويل ومجدي يعقوب وفاروق الباز ومصطفى السيد وغيرهم من العلماء".
وقالت جودة إن هذا الهجوم غير المحسوب على شخص المخترع الصغير يمكن أن يؤدي إلى هروبه من مصر إلى الأبد، في الوقت الذي يجب أن نسعى فيه إلى احتضان كل عالم أو مخترع، للاستفادة من علمه في بناء مصر، مبينة أن المشكلة ليست مشكلة مصطفى الصاوي وإنما مشكلة الكثير من الشباب الباحثين والمخترعين، والتي يجب على الدولة ووزارتي البحث العلمي والتعليم العالي أن تحتضنهم وتشجعهم من خلال برامج مختلفة يمكنهم عن طريقها أن ينتجوا عملاً نافعًا لمصر. وأضافت جودة أن الإهمال ينال من كل العلماء والمخترعين المصريين، وأنه من السهل أن نرى اهتمامًا كبيرًا من مؤسسات الدولة بالفنانين ولاعبي الكرة، ولكننا لا نرى اهتمامًا بالعلماء والمخترعين لأن الدولة أسقطتهم، مشيرة إلى أنها كانت ضمن عشرة علماء مصريين تم اختيارهم وسط أهم 909 علماء على مستوى العالم منذ ما يقرب من سنتين، ولم يهتم أي من مؤسسة الرئاسة أو رئاسة الوزراء بإرسال برقية تهنئة لأي منهم، وبالرغم من أنها هي والدكتورة نادية الزخاري كانا يومًا وزيرتي الدولة للبحث العلمي، إلا أنه حتى وزارة البحث العلمي لم تهتم بتهنئتهما على حصولهما على هذا التقدم العلمي العالمي. ومن جانبه، قال الدكتور علاء إدريس، عضو مجلس إدارة صندوق تطوير العلوم والتكنولوجيا بوزارة البحث العلمي وعضو مجلس الأمناء ورئيس لجنة البحث العلمي بمؤسسة مصر الخير، إن وصف المخترع الصغير بالخائن غاية في السخف، مؤكدًا أننا كشعب نكيل بمكيالين، ففي الوقت الذي يتهم فيه مصطفى الصاوي بالخيانة لحصوله على جنسية إماراتية، يمجد علماء مثل مصطفى السيد ومجدي يعقوب وأحمد زويل رغم أنهم يحملون جنسيات مزدوجة، موضحًا في الوقت نفسه أنه إذا أردنا اتهام المخترع الصغير بالخيانة لحصوله على جنسية ثانية غير الجنسية المصرية، فيجب أن نتهم أكثر من ثلاثة ملايين مصري بالخيانة، لمجرد أنهم وجدوا فرصة لم يجدوها في بلدهم للعمل والتفوق، فأصبحوا يحملون جنسية مزدوجة. وأوضح إدريس أن العلم في مصر "سلعة غير مطلوبة"، فعلى مَن يتمكن الشغف العلمي من نفسه أن يبحث عن مكان يقدر سلعته، ويطبق علمه على أرض الواقع، واصفًا المنظومة العلمية في مصر بالمنظومة الفكاهية، وإنه لا يوجد في مصر باحث علمي محترف حتى من يعمل في المراكز البحثية، قائلاً: "إن الدولة تمنح الباحثين أجرًا بصرف النظر عن إنتاجهم العلمي، وهذا ما يحولهم إلى مجرد هواة وليسوا محترفين، والمشكلة أن الدولة لا يمكن أن تحاسبهم لأنها لا تكلفهم بأعمال بحثية تخدم الاقتصاد الوطني، وبالتالي فإن هذه الرواتب تعتبر مالاً مهدرًا من ميزانية الإنفاق على البحث العلمي. وأضاف إدريس أنه بدلاً من أن نلقي اللوم على شباب صغير أراد أن يبحث عن فرصة لم يجدوها في بلدهم ونتهمهم بالخيانة، يجب أن تطور المنظومة العلمية، لأن المشكلة التي تواجه مصر هي خلل منظومة البحث العلمي وليس خلل إنسان يبحث عن فرصة أفضل في بلد آخر. في حين يرى الدكتور هاني الناظر، رئيس المركز القومي للبحوث السابق، أن حصول المخترع مصطفى الصاوي للجنسية الإماراتية يعتبر إنذارًا يجعلنا نهتم بمنظومة البحث العلمي، وضرورة وضع برامج سريعة للشباب المبتكرين والمخترعين، لاحتوائهم بدلاً من أن يلجأوا للهروب من مصر، واصفًا فقدان العقول الشابة الصغيرة التي لم تنضج بعد بالخسارة الفادحة لمستقبل مصر. وأكد الناظر أن التخوين للمخترع الصغير كان متوقعًا في ظل وجود فوضى كبيرة نتيجة سيطرة السوشيال ميديا على الساحة، والتي توجه آليات الآراء المختلفة، وساهمت في إظهار التباين الكبير في الآراء، مشيرًا إلى أنه لا يمكن اعتبار مصطفى الصاوي خائنًا، لأنه لم يتنازل عن الجنسية المصرية، فإذا أرسلت الحكومة المصرية لتتبناه بشكل واضح وصريح فإنه سيعود مرة ثانية، وسيكون مكسبًا كبيرًا لمصر، لأن عودته بهذا الشكل سيجعلنا نكسب غيره من المغتربين من العلماء والمخترعين. ومن جانبه، قال الدكتور إيهاب داود، مخترع القلب الصناعي، إن هناك الكثير من الأمثلة تشبه حالة هذين المخترعين، وأنهما لم يكونا الوحيدين اللذين خرجا من مصر بحثًا عن فرصة أفضل، وأن هذا طبيعي لأن المنظومة التعليمية والبحثية كلها تحتاج إلى إعادة تأهيل، بداية من وضع قوانين شاملة للتعليم لا يستثنى فيها أبناء الكبار، والإيمان بأن العقل النابغ لا يشترط أن يكون والده عالمًا أو ذا مكانة اجتماعية كبيرة، بالإضافة إلى ضرورة النظر إلى المجلة الدورية التي تصدر عن أكاديمية البحث العلمي، والتي تكشف عن براءات الاختراع التي تصدر شهريًا، ويلتفت لها وزير البحث العلمي ويتخذ قرارًا بتطبيق البراءات المصرية منها بدلا من تخزينها في الأدراج. وأضاف داود أنه كمخترع واجه الكثير دون أن يهتم به أو باختراعه أحد المسئولين، حتى يبدأ في تنفيذ اختراعه، رغم أهمية القلب الصناعي، فيوجد 2% من سكان الأرض يحتاجون إلى تركيب قلب صناعي أي حوالي 140 مليون إنسان على مستوى العالم، أي أن تسويق الاختراع سيدر ميزانية دول، وفي المقابل لا يحتاج المشروع أكثر من 100 مليون جنيه فقط، مطالبًا بسرعة أن تفوض الدولة أحد الأشخاص أو تفوضه بشكل رسمي ليتكلم باسم مصر، حتى يتحول اختراعه إلى شركة مساهمه، فتقوم بتمويله أي دولة في العالم، وإن كان يفضل أن تكون دولة عربية، بحيث يكون الاختراع مصريًا والتمويل عربيًا والتصنيع أجنبيًا. وأشار داود إلى أن الشعب المصري يثبت يوميًا أنه شعب مصاب بحالة مرضية، فهو يعشق إدانة الآخرين عن جهل، فهو يدين المخترع الصغير بالخيانة لمجرد حصوله على جنسية مزدوجة، دون أن يهتم بظروف الشاب المخترع الذي لم يجد أحدًا يرعاه، فاتجه إلى الخارج، وهذا يذكره باتهامه بالخيانة عن جهل لمجرد أنه أراد أن يحمي اختراع "القلب الصناعي" فقام بتسجيله في بلد أجنبي.