خبرات عملية ودولية ومقترحات لتجديد الخطاب الديني نستكمل ما بدأناه، ونقول: أتيح لي بحكم موقعي كمدير تنفيذي سابق لرابطة الجامعات الإسلامية، زيارة كثير من الدول الأوروبية والآسيوية إضافة إلى قارة أستراليا، ألقيت خلال هذه الزيارات عشرات المحاضرات للتعريف بالإسلام، ووقفت عن قرب على مشكلات الدعوة والخطاب الديني هناك، كما وقفت أيضا على تجارب رائدة في تجديد الخطاب الإسلامي في الخارج يمكن أن نستفيد منها في عملية التجديد، ويسرنا أن نعرض طرفا منها. في الدانمارك: في إحدى الجولات الدعوية التي قمت بها في أوروبا وبالتحديد في مملكة الدانمارك -بعد أزمة الرسوم المسيئة لسيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم)- شكلنا وفدا يضم ثمانية أشخاص، وتم اختيارهم بعناية، ثم توجه هذا الوفد لزيارة المرضى في بعض المستشفيات الكبرى في مدينة كوبنهاجن وقدمنا لهم الورود، وبعض الهدايا، فسألونا من نحن؟ فقلنا لهم نحن مسلمين، فقالوا: المسلمون نعلم عنهم أنهم لا يحملون الورود بل يحملون السلاح...إلخ، فأوضحنا لهم بمنتهى اللين والرفق واللطف أن الإسلام هو الدين الخاتم الذي جاء ليتمم الرسالات السماوية، وجاء ليصصح مسار الناس في هذه الدنيا ليخرجهم من الظلمات إلى النور، ويوجههم إلى طريق الله تعالى الذي خلقنا ورزقنا وميزنا بالعقل وإرسال الرسل ومن ثم كان التكليف، الذي يتبعه الحساب، ثم يليه نعيم مقيم، أو عذاب أليم والعياذ بالله. وأوضحنا لهم أن الإسلام دين يقبل الآخر ويحترم الأديان والحضارات والرسل السابقين؛ بل إنه جعل الإيمان بالرسل السابقين ركنا من أركان الإيمان لدى المسلمين، وأنه دين لا يجبر أو يكره أحدا على الدخول فيه؛ بل يدعو إليه بالعقل الذي هو مناط التكليف، وبالمنطق، يقول تعالى: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ)(البقرة: 256) وهو دين يحث على الخير والفضيلة ويحترم العلم والعلماء ويدعو إلى التفكر والتدبر في ملكوت الله، ويعاتب الذين يغلقون نوافذ عقولهم وقلوبهم، بل ويجعلهم كالأنعام يقول تعالى: (... لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ)(الأعراف: 179).. وبينا لهم أنه لا رهبانية في الإسلام، فتعاليمه سهلة ميسرة تناسب الإنسان أي إنسان في كل وقت وفي كل حين، قال تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(الحج: 78) وهو دين النظافة والطهارة والحرية.. حرية المعتقد وحرية الفكر وحرية الرأي والتعبير... وهو دين يكرم المرأة ويجعل لها مكانة رفيعة في المجتمع.. فهي أم وأخت وزوجة وبنت.. دين يراعي حقوق الإنسان أي إنسان -بغض النظر عن إغفال بعض المسلمين تطبيق تلك المبادئ- بل هو الدين الذي يدعو إلى الرحمة والرفق بكل مفردات الطبيعة من إنسان وحيوان ونبات وحتى الجماد.. وأنه دين قام على الوسطية، واحترام العقل، ومخاطبة الوجدان، ووازن بين الروح والجسد، كما أنه دين واضح لا غموض فيه ولا لبس ولا تناقض فيه.. وقلنا لهم بعد إيضاح هذه الحقائق- إن ديننا الإسلامي الذي جاء به نبي الرحمة محمد (صلى الله عليه وسلم) يأمرنا بزيارة المرضى، وتفقد أحوالهم ورعايتهم، فقالوا لنا: إذا كان دينكم بهذه الحال، فلماذا لا تظهرونه للعالم؟ ولماذا تتركوننا فريسة للتشويه المتعمد وللإعلام الكاذب؟! وقد فرح المرضى فرحًا كبيرًا بما فعله هذا الوفد وأحسوا كأنهم في حلم.. وبعد أن نفدت باقات الورود التي معنا انتهت الزيارات، تمنيت أن تكون باقات الورود من الكثرة بمكان، بحيث تكفي لزيارة أكبر عدد ممكن من المرضى. ولا شك أن هذه اللفتة الإنسانية كانت مظهرا من مظاهر إنسانية الإسلام ورحمة نبيه عليه السلام التي شملت الناس.. كل الناس: المسلم وغير المسلم، بل شملت كل مفردات الطبيعة والكون. والملفت للانتباه أننا عندما قدمنا لهم الورود، وبعدها قدمنا لهم كتابا عن سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) استقبله البعض بابتسامة، أما البعض الآخر فقد رفضه أو أخذه على مضض، مستهجنا هذا الصنيع، وقدمت تقريرا، طالبت فيه، بما يلي: • أن تكون هناك عدة وفود، بحيث يتوجه كل وفد إلى مكان معين، على أن يتم اختيار هذه الوفود بعناية تامة. • أن تقدم هذه الوفود للمرضى الورود فقط، ولا تقدم كتبا، بل يمكن أن تقدم كروتا للتهنئة والتمنيات بالشفاء العاجل، موضحا عليها هاتف وعنوان المؤسسات الإسلامية المرسِلة. • أن تتم هذه الزيارات بطريقة رسمية بالتنسيق مع الجهات الرسمية في كل مدينة. • أن تكون الوفود مصحوبة ببعض الإعلاميين المشهورين بالإنصاف، بحيث تغطى هذه الزيارات تغطية إعلامية تبرز سماحة الإسلام ورحمة نبيه عليه الصلاة والسلام، وتسهم في تصحيح صورة الإسلام والمسلمين هناك. • أن تعمم هذه التجربة في شتى دول العالم الغربي. • السعي لإنشاء إذاعات وقنوات فضائية وصحف ومجلات تتحدث بلسان حال المسلمين في الغرب بخطاب تجديدي، وتعد مرصدا لتصحيح الصورة المشوهة التي يكرسها بعض وسائل الإعلام الغربية. وبعد فإنني أرى ضرورة الاهتمام بكليات الدعوة الإسلامية وكليات الإعلام ومؤسسات تدريب الدعاة وتطوير مناهجها، بحيث تذخر ببرامج دقيقة لتكوين الإعلاميين والدعاة، وتطوير الخطاب الديني وتجديد لغته وآلياته لكي تخاطب الغرب بلغته وطريقة تفكيره بدلا من مخاطبة الذات. في أستراليا: وقفنا أثناء زيارتنا الدعوية لأستراليا في شهر رمضان سنة 1427ه - أكتوبر 2006م، على تجربة رائدة للمؤسسة الأسترالية للثقافة الإسلامية في مجال التعريف بالإسلام بصورة تجديدية، وهي مؤسسة تعد من أهم المؤسسات الفاعلة والعاملة على الساحة الأسترالية وتضم في عضويتها الآلاف من خيرة المسلمين الحاصلين على الدكتوراه والماجستير والشهادات العليا هناك. ويرأس مجلس إدارتها عالم جليل من علماء الأزهر الشريف وهب نفسه للدعوة إلى الله والتعريف بالإسلام في هذه القارة، ويتميز بالفكر الثاقب والحكمة والروية، هو البروفسير الدكتور إبراهيم سالم أبو محمد المفتي العام للقارة الأسترالية، وتعقد هذه المؤسسة محاضرة دينية ثقافية وفكرية شهرية، تعد وتنفذ وتترجم بصورة دقيقة للغاية وتنقل عبر وسائل الإعلام الأسترالية، وتتناول عرضا تجديديا لحقائق الإسلام الحنيف والرد على الشبهات والمطاعن التي تثيرها القوى العنصرية والصهيونية ضد الإسلام والمسلمين، ويحضرها بصورة دورية جمع غفير من المسلمين وغير المسلمين. وثمة حوارات فكرية وثقافية وحضارية تنهض بها المؤسسة مع المؤسسات الفاعلة في أستراليا كالبرلمان الأسترالي وبعض الوزارات وغيرها؛ بهدف اختصار واختزال المسافات الفكرية والثقافية بين المسلمين وغيرهم، كما أن هذه الحوارات الدورية تخلق نوعا من التناغم والانسجام في مجتمع متعدد الثقافات. واستطاعت المؤسسة بفكر علمائها الثاقب وبإدارتها الجيدة أن تتغلغل داخل المؤسسات الفاعلة في أستراليا، وأن تستقطب المسئولين والباحثين وتستميلهم تجاه قضايا المسلمين، ومن ثم تمكنت بخطابها الديني التجديدي من أن تحول النظرة إلى الإسلام من مرحلة الاستعداء, إلى مرحلة الحياد, ومن مرحلة الحياد إلى مرحلة مناصرة الحقوق العربية والإسلامية.. ولاشك أن هذه المحاضرة التي يحضرها ما يقرب من ألف شخص من الرجال والنساء والشباب والأطفال تعد عرسا شهريا للمسلمين، وعيدا اجتماعيا وثقافيا يتلاقي فيه المسلمون على الخير والإيمان للتعرف على بعضهم البعض والمشاركة في أفراحهم وأطراحهم. والمؤسسة لا تقيم المحاضرات في المساجد بل في قاعات عامة حتى يتسنى للذكر والأنثى وغير المسلمين أن يحضروها.. وتهيئ المؤسسة من خلال هذه المحاضرات محاضن نظيفة للرؤية يتم فيها التعارف بين الفتى والفتاة في جو تحيطه الحشمة ويعلوه مراقبة الله وتحت سمع وبصر العائلتين، وفي هذا الجو يتم التعارف ويمكن حينئذ تيسير قضية الاختيار ثم الزواج، وهذا في صميمه جزء من العمل الإسلامي الذي ييسر الحلال في بلد يعز فيه اللقاء بين الأسر والعائلات.. وتُعقد المحاضرة مساء الجمعة الأخيرة من الشهر في إحدى القاعات الكبرى في مدينة سيدني. وتخصص المؤسسة ركنا خاصًا للأطفال تقدم لهم فيه الألعاب والوجبات والأفلام الكارتونية الهادفة. ويعقب المحاضرة عشاء جماعي يشترك في إعداده كل الأسر. وتعقد أيضًا على هامشها حفلات لتكريم المتخرجين في دورات تعليم التجويد، وتعليم اللغة العربية واللغة الإنجليزية، وكذلك الدورات التي تعقدها المؤسسة لتعليم المسلمين فقه الرد على الشبهات، وفقه التعريف بالإسلام وبنبيه الكريم. وتهتم المؤسسة بالترجمة اهتماما منقطع النظير بهدف إيصال الصوت الإسلامي الصحيح إلى المسئولين وإلى شتى الشرائح والفئات داخل المجتمع الأسترالي.. كما استطاعت المؤسسة أن تستثمر بعض الأحداث والفاعليات التي تعقد على أرض أستراليا –لاسيما بعد أحداث 11 سبتمبر- كالأولمبياد الذي عقد في أستراليا منذ عدة سنوات؛ للتعريف بالإسلام الصحيح من خلال آليات تجديدية نابهة، ولتؤكد للشعب الأسترالي على أن الأمن في الإسلام له مكانة سامقة، وأن المسلمين في استراليا جزء لا يتجزأ من نسيج هذا المجتمع، وأنهم على أتم استعداد للمشاركة في تأمين الضيوف الذين سيتوافدون على أستراليا وقتذاك، وهكذا تمكنت المؤسسة أن تقضي على تخوف الأسترال من ناحية، وتعرف بالإسلام بطريقة علمية أبهرت الأسترال من ناحية ثانية.. ومن هنا يمكن الاستفادة من هذه التجربة الرائدة في تجديد آليات وطرق الخطاب الإسلامي.. وللحديث بقية.
مستشار الهيئة العالمية لضمان جودة الدعوة وتقييم الأداء ببروكسيل عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.