نستكمل ما بدأناه، ونقول: تختلف مناهج وأساليب الدعوة إلى الله من مكان لآخر ومن بيئة لأخرى ومن زمان لآخر، فإذا كانت الدعوة موجهة للمجتمع المصري مثلا فهناك منهج معين، وإن كانت في المجتمع الخليجي فثمة منهج آخر، وإذا كانت في المجتمع الإسلامي الذي لا ينطق اللغة العربية فهناك أسلوب آخر، وإن كانت في المجتمع الغربي فإما أن يكون المجتمع علمانيا أو مسيحيا، وإن كان الثانية فقد يكون إما أرذثوكسيا أو بروستانتيا أو كاثوليكيا، ولكل واحد منهم منهجية في التعريف بالإسلام. وحينما نخاطب أحدا بالإسلام فلابد أن نلج إلى ثقافته العامة والخاصة، ونتخذ هذه الثقافة تكئة لنبني عليها أسسنا ومنهجيتنا في التعريف بالإسلام. فعلى سبيل المثال: حينما نذهب إلى تربة لنبني عليها بناية، فإما أن تكون هذه التربة طينية أو رملية أو طفلية.. إلخ، وحينما نضع (مجساتنا) فلابد أن يكون بنياننا على أرض الواقع.. ومن ثم فإننا حينما نعرف بالإسلام في لندن فإن المنهج يختلف في باريس عنه في نيويورك... وهكذا.. ولابد أن يكون الداعي ذكيا بحيث لا يبدأ بالمحرمات والممنوعات، لأن الذي يقبل المحرمات والممنوعات هو الذي أحب، فالمرأة مثلا حينما تحب زوجها فإنها تقبل منه الأوامر بصدر رحب، والعكس بالعكس.. وهكذا.. إن التطور الطبيعي للحياة يقتضي إيجاد دعاة على مستوى رفيع من العلم والثقافة والخبرة والتطور بحيث يكونوا مسايرين للتطور المتلاحق، قال تعالى: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (آل عمران:104). إن الدعوة إلى الله وظيفة الأنبياء والمرسلين، وسبيل العلماء العالمين...فإذا كان الطبيب يعالج الأمراض، فإن الداعية يعالج السلوك المُعْوَّج، ويرسم الطريق الصحيح والقويم لمن يدعوهم وفق تعاليم الإسلام.. والدعوة منصبٌ خطيرٌ ومرتقى صعب المنال لا يصل إليه طالبه بيسر، بل يحتاج مبتغيه إلى زاد عظيم؛ لذا يتعين عليه أن يتخلق بأخلاق الإسلام ويتزود بكثير من العلوم والمهارف والمهارات، التي من أهمها: أن يكون حافظًا لكتاب الله _عز وجل_ عالمًا بتفسيره وبأسباب نزوله، وبالناسخ والمنسوخ، وبمُحْكَمِه ومُتَشَابِهِه.. وعالمًا بالسنة النبوية، وما صح منها وما لم يصح، وأن يكون مُتمكنًا من اللغة العربية، له لسان فصيح، قادرًا على الإنشاء، معبرًا عمّا يخطر بباله وما يجيش في صدوره، وأن يكون عالمًا بالفقه وأصوله وبالفروع؛ حتى لا يتخبط في الأحكام، وأن يكون قدوة حسنة طيبة، مأمونًا في دينه وعقيدته، ضابطًا عاقلاً ورعًا تقيًّا نقيًّا مهذبًا نبيهًا مُهابًا في قومه، زاهدًا متواضعًا، غير مجاهر بمعصية ولا متلبس بمخالفة، موسوعي المعرفة، ومطلعًا على عدد من الثقافات والعلوم الأخرى، دائم الاطلاع، مستنيرًا في فكره، وعالمًا ببعض اللغات، وعالما (بسيكولوجية) المخاطبين، مراعيًا الفروقَ الفرديةَ بينهم، قادرًا على استمالتهم والتأثير عليهم، وأن يكون كذلك قوي الشخصية، قادرًا على السيطرة على المواقف الحرجة والمفاجئة، قابلاً للتطور ومهمومًا به، ومحافظًا على الثوابت والمقدسات، وقادرًا على التعامل مع العصر بكل متغيراته ومستحدثاته وتحدياته، وأن يحذر تنفير الناس من دين الله _عز وجل_ من خلال الإفراط في استخدام أسلوب الترهيب والتخويف الذي يؤدي في أحيان كثيرة إلى نتائج عكسية، وأن يكون منطلقه نابعًا من قوله تعالى: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (النحل: 125)، وأن يبتعد الداعية عن الفتوى بغير علم، لأن أمر الفتوى خطير... مع ضرورة إعدادهم إعدادًا علميًّا دقيقًا يتناسب مع مباشرة مهامهم في الغرب، ومن ذلك: تزويدهم بمعرفة متعمقة عن الديانتين اليهودية والمسيحية، وبالعقائد الدينية الأخرى ذات الأثر في المجتمعات المعاصرة، وتزويدهم كذلك بعلوم النفس والاجتماع والأنثروبولوجيا والأيديولوجيات والفلسفات السائدة، والواقع السياسي والاقتصادي في العالم المعاصر، وكذلك إمدادهم بالخبرات اللازمة لمخاطبة الجماعات المتباينة بمختلف أنواعها وقطاعاتها.. فضلاً عن حتمية إتقانهم للغة البلد التي يعملون فيها وثقافته وتراثه، ولن يتأتى ذلك إلى بعقد دورات مكثفة ودقيقة لهم من خلال كبار الأساتذة المتخصصين.. على أن يشمل إعدادهم أيضا تعريفهم ب: - فهم طبيعة العلاقة بين المسلمين وغيرهم - وضع الجاليات المسلمة خارج بلاد الإسلام - مصادر الكراهية والخوف من الإسلام - وسائل تحسين العلاقات - التعرف على بعض التجارب الرائدة في مجال التعريف بالإسلام وذلك على النحو التالي: فهم طبيعة العلاقة بين المسلمين والأوروبيين: إن المجتمعات الأوروبية تضم كثيرا من الجاليات، وهذه الجاليات مختلفة في الفكر والدين عن المجتمعات التي يعيشون فيها.. وثمة مشكلات اجتماعية تواجههم خصوصا وأن المجتمع هناك يغلب عليه الطابع العلماني الذي يعارض التدين، وهم يعتقدون أنه لا توجد حاجة لوجود دين.. كما يعتقدون أيضا أن التطور الذي سيحدث بعد ذلك في أوروبا ينبئ بأنه لن يكون ثمة حاجة للدين بصفة عامة، وأن التطور الفكري يدعو إلى ذلك.. والإشكالية تتبلور في أنه مع قدوم المسلمين من الدول الأخرى أصبح هناك بعض التغير في المجتمع الأوروبي، وليس فقط من الإسلام، ولكن هناك جماعات من المسيحيين قدمت أيضا من إفريقيا، وبعض أجزاء من أوروبا.. ففي إطار الجالية المسيحية كانت هناك مبادئ لإحياء المبادئ الدينية الموجودة لدى القدماء.. وهذا يعني أن المشكلات الخاصة بالدين أصبحت حاليا تحت الأضواء في أوروبا.. ومع ازدياد عدد المسلمين في أوروبا أمسى هناك شعور بأن الدين لم يذهب للأبد، بل أصبح هناك نوع من الشعور بالإحياء الديني.. ومن ثم فمشكلة العلمانية في أوروبا تكمن في أنها لا تعترف بالأديان –كما سبق-، وبالتالي فالمجتمع هناك مجتمع لا ديني. وقد أتي عليهم من الخارج دين قوي له معتقداته وأفكاره ويريد أن يفرضها عليهم، وهم يعتقدون أنها تهدد أمنهم وتهدد مستقبلهم وحريتهم وهذه هي مخاوفهم التي ينطلقون منها.. وأري أنها مخاوف خاوية، حيث يمكن الرد على تلك المخاوف من خلال إستراتيجية متكاملة للتعريف بالإسلام الذي يقبل التعايش مع الآخر.. وإن اطلاع الدعاة على هذه الحقائق من الأهمية بمكان. وضع الجالية المسلمة في أوروبا: يختلف وضع الجالية المسلمة في أوروبا من بلد لآخر، ففي بعض البلدان يتمتع المسلمون فيها بالحرية وبسائر الحقوق الأخرى، وليس لديها مشكلات مع الحكومة في هذا البلد، وهناك العكس من ذلك تماما... والمشكلة هناك تكمن في أن بعض الأحزاب يفتعلون المواقف ويستغلون الظروف بهدف كسب الأصوات في الانتخابات، من خلال ما يقوم به بعضهم من نشر الخوف من الإسلام لكسب أصوات رجل الشارع، لدرجة أن بعض الأحزاب تستلين الناس بالعداء للإسلام، في ظل غياب إستراتيجية إسلامية موحدة للتعريف بهذا الدين الخالد.. فعلى سبيل المثال: تحدثنا في رابطة الجامعات الإسلامية مع بعض المسئولين الهولنديين –إبان أزمة الفيلم الهولندي المسيئ للإسلام "فتنة"- عن كراهية الإسلام في بلدهم، فنفوا وبشدة أن يكون هناك شعور بالكراهية ضد المسلمين في هولندا.. ولكن إذا تمكن المسلمون من إتقان اللغة الهولندية بطلاقة، فإنهم سيتعايشون مع جيرانهم بسهولة.. ويؤكدون أن المسلمين هناك لهم سائر الحقوق مثل غيرهم، فهناك كفالة للحريات (حرية التعبير، وحرية تكوين منظمات.. إلخ).. ولكن المشكلة الحقيقية التي يراها الأوروبيون أنه لا توجد صورة واضحة وموحدة عن الإسلام فهناك السنة والشيعة وهناك السلفيون وهناك المتصوفون وهناك الجهاديون.. إلخ، وبالتالي فالبعض يوجِد تعريفًا مُعممًا للإسلام وهو التطرف.. وبعد أحداث سبتمبر ولندن ومدريد تَكَوّن لديهم نوع من الربط بين الإسلام والتطرف، وأحيانا يمكن أن يكون هناك نوع من الترجمة للإسلام على أنه دين لا يعترف بالديمقراطية، وينظرون إلى بعض الدول المسلمة على أنها دول غير ديمقراطية.. وبالتالي فإن المجتمع الغربي كله في حاجة ملحة وماسة إلى التعرف على الإسلام الحقيقي بخطاب تجديدي تنويري، يُظهر قيم الإسلام وعلى رأسها قيم التسامح والتعددية وقبوله الآخر...إلخ. مصادر الكراهية والخوف من الإسلام: إن مصادر الكراهية والخوف من الإسلام يمكن أن نجملها -من خلال جولاتنا الدعوية في أستراليا والدانمارك والسويد وفرنسا وبلجيكا.. وغيرها- في عدة عوامل، أهمها: 1. الجهل بالإسلام. 2. عوائق التواصل اللغوي بين المسلمين وبين أهل البلاد التي يعيشون فيها. 3. التضليل الإعلامي المتعمد الذي تغذيه وتذكيه قوى معادية للسلام وللإسلام، والتخوف من الإسلام عن طريق ما تبثه الصحافة في أدمغة الناس من أفكار مغلوطة ومزورة عنه. 4. ما يكتبه بعض العنصريين وبعض أعضاء البرلمان بهدف كسب الأصوات. 5. السلوك السيئ لبعض المسلمين هناك، والذي تسبب في رسم صورة بعيدة كل البعد عن الإسلام. وسائل تحسين العلاقات: إن المنظمات الدولية الإسلامية يمكن أن تؤدي دورا محوريًّا فاعلا في التعريف من خلال عمل إستراتيجية للتعريف بالإسلام الصحيح بخطاب جديد، وإرسال البعثات والدعاة المستنيرين، وعقد اللقاءات العلمية والندوات والمؤتمرات المشتركة، والتواصل مع مجتمع الجاليات، ولابد أن يتكاتف الجميع لترسيخ مفاهيم ومبادئ الحوار، ونشر ثقافة التعايش، وسن القوانين الدولية لمنع إزدراء الأديان. والأمل معقود على المنظمات والمؤسسات والمراكز الإسلامية والجامعات، في ترسيخ الحوار وتجديد الخطاب الإسلامي في هذا الوقت الحرج من تاريخ أمتنا الإسلامية؛ لتبني استراتيجية موحدة للتعريف بالإسلام لترسيخ التعايش السلمي وتحقيق السلام العالمي، ومن ثم قيادة العالم نحو بر الأمان.. وفي هذا الإطار نعرض لجهود واحدة من الهيئات الحكومية المصرية المهمة، والتي كان لها قصب السبق في وضع معايير لإعداد الدعاة بصورة عصرية، يترتب على تطبيقها إيجاد دعاة للإسلام عصريين غير نمطيين، يسهمون في حمل مشاعل النور والهداية، بصورة تجديدية عصرية تواءم بين الأصالة والمعاصرة.. ونشير إليها في المقال التالي.
مستشار الهيئة العالمية لضمان جودة الدعوة وتقييم الأداء ببروكسيل عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.