أكثر ما أحرج الإعلام المصري في أحداث ماسبيرو المؤسفة أنهم لم يعثروا على أي لحية أو جلباب في موقع الأحداث ولا في محيطها ، وهذا ما جعل معظم البرامج التي تناولت الحدث في حالة متاهة كلامية لا تدري أولها من آخرها ، كان الإسلاميون أو اللحية أو السلفيون هم أسهل المداخل لملأ الفراغ الإعلامي بالكلام الفارغ والاتهامات الجزافية والسهلة والرخيصة ، كنت أتجول بين برامج التوك شو في مختلف القنوات الرسمية والخاصة وأجد الكلام يطوف ويحاول استحضار فزاعة الإسلاميين ولكن المشهد المسجل بالصوت والصورة أوقع الجميع في حيرة وإفلاس فكري وإعلامي . الإفلاس الإعلامي جعل كثيرين يحاولون الهرب من دلالة المشهد وما يفرضه من رأي صارم يدين من مارسوا البلطجة الطائفية ضد الجنود وحاولوا إشعال أزمة طائفية في البلد ، فراح بعضهم يتحدث كما لو كانت الواقعة حدثت في إحدى العزب أو النجوع في حلايب أو الشلاتين مثلا ، وتجاهلوا أن الواقعة حدثت في قلب العاصمة وأمام مبنى التليفزيون المصري وفي الشارع الذي يقع فيه أكثر من قناة تليفزيونية عربية وأجنبية ، قام كثير منهم بتسجيل وقائع ومشاهد حية لهجوم المتظاهرين الأقباط على قوات الجيش وعلى السيارات ، كما سجلت كاميرات التليفزيون الألماني وقناة الحرة "الأمريكية"!! وآخرون مشاهد حية تظهر عملية اختطاف المتظاهرين لسيارات تابعة للجيش استولوا عليها وقاموا بقيادتها بطريقة جنونية لتسحق كل ما يقابلها وتصطدم عمدا بسيارات أخرى للجيش لتدفعها عشوائيا في محاولة لتحطيمها فتتحرك قسرا في اتجاه متظاهرين يحاولون الفرار من هذا الجنون ، وكذلك تظهر المشاهد الحية عملية سحل المتظاهرين لجنود من القوات المسلحة وضرب أحدهم حتى الموت في سيارته المكشوفة ، ومطاردة جنود آخرين حاولوا الهروب من هذه المذبحة الهمجية فيوقعهم المتظاهرون ويسحلونهم ضربا بالحجارة والخشب ، هذا ناهيك عن الإصابات بالرصاص الحي التي أثبتها الطب الشرعي في أجسام الجنود المصابين والقتلى . الشهادات الحية لم تكن فقط في اللقطات والمشاهد المصورة ، بل في تقارير إخبارية على الهواء للعاملين في بعض القنوات الفضائية منها قناة الحرة "الأمريكية" وصفوا فيها بالتفصيل وقائع الهجوم للمتظاهرين على جنود القوات المسلحة وعلى الممتلكات الخاصة وتدمير سيارات وحرقها ومحاولة حرق الباقين والاعتداء على كل ما يقابلونه هذا بالإضافة إلى العاملين في مبنى التليفزيون نفسه الذين عاشوا ساعات من الفزع ورووا بعض ما شاهدوه من أعمال عنف واعتداءات وحشية من قبل المتظاهرين وإطلاق الرصاص الحي على الجنود وتأكيدهم على أن جنود القوات المسلحة في محيط المبنى الخارجي لم يكونوا يحملون ذخيرة . كنت أرى وأسمع كل ذلك وأنا أستغرب من هؤلاء "المحترمين" جدا من الكتاب والمثقفين والباحثين الذين تطوعوا للدوران على القنوات الفضائية ليقولوا أنهم لم يروا عنفا من المتظاهرين وأنهم كانوا مسالمين وهادئين ويحاولون الفرار أمام بطش قوات الأمن والجيش ، وربما نسوا أن يقولوا أنهم كانوا يلقون بأوراق الورد والريحان على الجنود ، وإذا كان هؤلاء "المحترمون" جدا يمارسون الدجل والكذب والتضليل العلني فيما هو مسجل بالصوت والصورة ، فكيف يأتمنهم الوطن على ما هو أخفى من ذلك وأبعد ، إن ما حدث في هذه الواقعة الدموية لم يكشف الغطاء فقط عن القيادات الدينية المتطرفة والإرهابية وإنما كشف الغطاء أيضا عن قطاع واسع من النخبة المزيفة والتي كانت تتستر طوال السنوات الماضية وراء ستارة كاذبة من التحليل والموضوعية والبحث العلمي ، ليصبحوا أمام الرأي العام عراة من أي علم أو عقل أو موضوعية ، مجرد دجالين ، انعدم لديهم أي إحساس بالأمانة أو الأخلاق أو المسؤولية . مرة أخرى أؤكد على أن التطرف لا يصح أن يواجه بتطرف مقابل ، فالتطرف كله باطل ولا يأتي بخير أبدا ، والأحداث الأخيرة كشفت فيما كشفت عن انفلات الأوضاع داخل الكنيسة الأرثوذكسية بصورة واضحة ، بعد أن ضعفت سيطرة البابا شنودة على الأجيال الجديدة من رجال الدين ، بسبب حالته الصحية وكبر سنه وأصبحت هناك اتجاهات متناقضة داخل الكنيسة ، ووضح أن بعض رجال الدين المتطرفين يختطفون قطاعا من الشارع القبطي باتجاه العنف والتطرف والخروج على الدولة والوطن كله ويدفعونهم إلى المجهول ، وعندما تسمع لأحدهم في إذاعة أو تليفزيون تجد عدوانية مدهشة في الكلام والملامح والإشارات وبعضهم من النوع الذي يصفه العامة بأنه "يخانق ذباب وجهه" ، وهؤلاء لا ينبغي السماح لهم بالعبث بأمن الوطن ولا بد من إخضاعهم للتحقيق وتحويلهم إلى المحاكمة ، لأن تجاهل جرائمهم وتحريضهم على العنف والقتل سيغريهم بالمزيد وهذا خطأ وخطر . لقد خسر المتطرفون تلك الجولة بدون شك ، ورغم كل محاولات التزييف الإعلامي إلا أن الإدانة مسجلة بالصوت والصورة ، وهو ما جعل التصريحات الدولية تدين بوضوح "عنف كل الأطراف" كما ورد في أكثر من بيان ، وهي إشارة لا تخفى على لبيب ، وسوف يخسرون المزيد محليا ودوليا إذا فكروا ثانية في تكرار الخطأ والجريمة والعبث بالوطن وأمنه ، وأخشى أن أقول أن الأقباط جميعا يخسرون بصمتهم على سلوكيات هذه الفئة المتطرفة ، لأن المجتمع القبطي ، شاء أم أبى ، يتحمل جزءا كبيرا من فاتورة هذه الأعمال ، خاصة في وعي ومشاعر شركاء الوطن ، كما أن ما حدث لعله يعطي المجلس الأعلى للقوات المسلحة الرسالة الأكثر سخونة لكي يسارع بعملية نقل السلطة إلى حكومة مدنية منتخبة وإنجاز التحول الديمقراطي ، حتى لا يجد نفسه بصفة منتظمة أمام مواجهات مباشرة مفاجئة وغير محسوبة العواقب مع فئات مختلفة من الشعب . [email protected]