بعض السادة القراء، التبس عليهم مقالي يوم أمس.. أنا لم أكن يوما ما مع إحالة المدنيين إلى المحاكم العسكرية.. ولا أحد يزايد علينا في هذه المسألة.. لأني استدعيت أنا والأستاذ جمال سلطان أكثر من مرة إلى النيابة العسكرية، وتم التحقيق معنا مرتين لمدة لا تقل عن 8 ساعات، ولم نجعل منها "زفة" في "المصريون" أو في غيرها. ولكن ودت أن أنقل صورة المشهد على حقيقته بدون "رتوش" ولا "تجميل".. وقلت صراحة أنه طالما ظل الجيش في الشارع وفي السلطة، فإن المحاكم العسكرية، ستظل جزءا من النسق السياسي المدني، إلى أن تعود الدبابات المنتشرة في الشوارع إلى ثكناتها، وتنقل السلطة من العسكريين إلى حكومة مدنية منتخبة. أعيد هنا وأكرر .. إذا ظل الجيش في السلطة، وتجلياته المختلفة غالبة على المشهد السياسي، فتوقع أي شئ، ويظل النضال الحقيقي على جبهة العمل من أجل فصل "العسكري" عن "المدني" ليس بالكلام والشوشرة وطول اللسان وبقلة الأدب أو بالتحريض على استخدام السلاح ضد السلطة العسكرية والهيئات القضائية.. وإنما بتهيئة الأوضاع داخل البلد وتليين كل الطرق التي تُعجل باجراء الانتخابات في موعدها بدون تسويف أو مماطلة.. هذا هو "الحل" الوحيد، إذا كانت النيات خالصة فعلا أو كنا جادين في أن نولي وجهنا شطر "الدولة المدنية" التي نأملها في المستقبل القريب. المدهش حقا، أن دعاة الدولة المدنية من النخبة المختطفة المجتمع الليبرالي في مصر، هي التي تعمل جاهدة على مد مظلة الحكم العسكري إلى أجل غير مسمى، بزعم أنها ليست جاهزة لخوض الانتخابات المقررة في سبتمبر القادم أو بعد ذلك الموعد بقليل، وأشرت إلى "استجداء" الأستاذ هيكل للمؤسسة العسكرية وحثها على اختطاف الثورة وتنصيب وزير الدفاع رئيسا للجمهورية.. فيما ما انفكت الأصوات "الليبرالية" تطالب باضافة مادة في الدستور الجديد، تعطي للجيش ما يشبه "الوصاية" على أداء الحكومة المنتخبة، بزعم حماية "مدنية" الدولة.. وبمعنى آخر، فإنه من غرائب الزمن أن تتدثر النخب الليبرالية في مصر، بالسترات العسكرية، أو تنام قريرة العين وتستمع بالقرب من دفء جنرالات الجيش أو تقبل على الأقل أن تعمل تحت نعال الأحذية الميري ، ثم تشتكي بعد ذلك من "خشونتها" أو من "فظاظتها".! حتى اليوم، لم يصدر من التيار العلماني المصري، على اتساعه وتنوعه، ما من شأنه تعظيم مدنية الدولة، على الأرض.. ثمة توافق علماني بكامل أطيافه السياسية والأيديولوجية، على أن يظل الجيش في السلطة!.. فكيف إذن نقبل بالأخير حاكما ثم لا نقبل ب"قضائه" حال أعمل قانونه على من يحكم؟! قل ما شئت عن ضرورة إحالة المدنيين إلى القضاء "الطبيعي".. غير أن الثورة لم تُسقط القوانين، فالأخيرة لا زالت هي المرجعية التي تجري بموجبها اجراءات التقاضي أمام المحاكم المصرية، بشقيها المدني والاستثنائي.. الزملاء الصحفيون يعلمون جيدا أن القانون المعمول به إلى الآن يجرم نشر أي خبر يتعلق بالمؤسسسة العسكرية بدون الحصول على موافقة المخابرات العسكرية.. هذا الوضع بالتأكيد ينبغي أن يتغير، ولكن هذا "الأمل" أو هذه "الرغبة" تظل عند حدود "التمني" ولا تُغني عن إعمال القانون شيئا. من هنا تبرز الحاجة الملحة إلى ضرورة التعجيل بالانتخابات البرلمانية، حال شئنا الغاء قوانين "تعسفية" كتلك التي تجيز إحالة المدنيين إلى القضاء العسكري وسن غيرها أكثرديمقراطية وإنسانية. المحصلة النهائية التي يمكن ان نخرج بها من أية قراءة موضوعية، لحقيقة المشهد السياسي المصري بعد الثورة، تشير على سبيل القطع بأن النخب العلمانية والليبرالية باتت هي المعوق الرئيسي لتحول مصر إلى دولة ديمقراطية.. هذه هي الحقيقة التي لا يريد كل من أعمى الله بصيرته وطبع على قلبه أن يعترف بها. [email protected]