من ذا الذي لا يُعجب بالتجربة الصينية في النمو والنهوض الاقتصادي والاجتماعي؟. زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي للصين هي الأهم حتى الآن لأنه يعاين على الطبيعة تجربة نجاح لبلد في ظروف أصعب وأعقد من ظروف مصر كثيرا لكنه يتغلب عليها ويتطور ويبني نفسه حتى صار صاحب ثاني أقوى اقتصاد في العالم بعد أمريكا. الصين صارت لاعبا دوليا مهما ورقما مؤثرا في صناعة القرار العالمي وفي توجيه حركة الأحداث ليس بالسياسة إنما بالاقتصاد فهو الكلمة السحرية في عالم اليوم وهو الشعار الذي فاز به بيل كلينتون على بوش الأب المنتصر في حرب الخليج الثانية وطرد صدام حسين من الكويت والذي اكتمل انهيار الإمبراطورية السوفيتية في عهده وهي المنافس العتيد لبلاده، لكن المواطن في أمريكا أو في أي بلد في العالم إذا كان يُعجب بالانتصارات العسكرية والسياسية، فإن إعجابه بالنمو والنجاح الاقتصادي أشد لأن انعكاس ذلك على حالته المعيشية هو الأهم والحاسم لديه. والمصريون اختاروا السيسي بالأساس لأنه منذ ظهر على الساحة وهو يعدهم بالحياة الأفضل وتحسين أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية، وصوت التوانسة للباجي قايد السبسي وفضلوه رئيسا على مناضل وطني عتيد مثل المرزوقي لأنه وعدهم بحل أزماتهم المعيشية واستقرار بلدان الخليج منبعه الأوضاع الحياتية الجيدة لشعوبه. الصين أمة بمعنى الكلمة أمة، سكانها فوق المليار نسمة، هي تعادل أكثر من سدس سكان العالم، ومع ذلك نجحت في توظيف تلك الطاقات البشرية الرهيبة في عملية النمو والعمل والبناء، لكنها في ذات الوقت حددت النسل بقوانين شديدة ثم عادت مؤخرا للتخفيف من تلك القوانين بالسماح بإنجاب الطفل الثاني لكل زوجين بعد اجتياز عقبات مرحلة البناء الأولى. مصر سكانا لا شيء مقارنة بالصين، وبالتالي يجب أن نتوقف عن نغمة الكثافة السكانية التي تأكل ثمار التنمية لأنه بمجرد انطلاق حركة النهوض سيم استيعاب كل الطاقات البشرية في ماكينات العمل، وميزة مصر أن نسبة الشباب من الفتيات والأولاد هي الأكبر ما يعني مجتمعا شابا عفيا. من المفارقات الكبرى للتجربة الصينية أنها ذات نظام سياسي شيوعي يعتمد على حكم الحزب الواحد، فلا حرية ولا ديمقراطية، ولا تداول سلمي للسلطة، بل هي دولة قمعية لأي حركات سياسية تطالب بمساحة من الحرية، ومؤخرا قمعت مظاهرات تطالب بالديمقراطية في هونج كونج، والحدث الأسوأ كان عام 1989 في ميدان السلام السماوي حيث دهست الدبابات الطلاب والمعتصمين في الميدان من أجل الحرية، هي اليوم رأس بقايا العالم الشيوعي، وفي منطق فريق كبير من المثقفين والأكاديميين وفلاسفة السياسة ونظرياتها أن شرط النهوض الاقتصادي هو الحرية والديمقراطية، على غرار الغرب الأوروبي والأمريكي، لكن الصين سارت عكس الاتجاه وحققت عكس ما يراه دعاة الحرية، فهي تنجز نهضة اقتصادية مكنتها من أن تجذب كبرى الشركات والاستثمارات الغربية في ظل ديكتاتورية سياسية عنيفة، استفادت من قيم الاقتصاد الحر ووفرت البيئة والمناخ اللازم للاستثمار وأزالت المعوقات منذ بدء تطبيق سياسة الإصلاح والانفتاح على الخارج عام 1978 مع بقاء الانغلاق السياسي ، ورأس المال عموما يحتاج إلى من يطمئنه تماما ولا يجعله يقلق والصين نجحت في ذلك بجانب مميزات الاستثمار فيها خصوصا اليد العاملة الرخيصة ، تجربة الصين تلك في المزج بين حكم الحزب الواحد بقبضة أمنية ومناخ استثماري على النمط الرأسمالي الغربي يعطي حافزا للبلدان المحكومة بأنظمة شبيهة، أولم تخرج من عباءة الحكم الاستبدادي كاملا، أو تنتهج ديمقراطية شكلية، أو لم تتأهل للديمقراطية بعد، أو لديها ديمقراطية ناشئة، بأنها يمكن أن تنجز مشروعا اقتصاديا متطورا في ظل حالتها السياسية المنغلقة، أو شبه المنغلقة، ومصر قريبة من هذا الوضع، وبالتالي ليس شرطا الانتظار لتجذر الديمقراطية من أجل الشروع في النهوض، فالارتباط الشرطي هنا كسرته الصين. ليس المهم أن يزور الرؤساء الصين، وكل رؤساء مصر زاروها من مبارك إلى مرسي وصولا للسيسي اليوم، لكن المهم أن نستلهم ما يناسبنا من تجربتها، وكذلك من تجارب الدول الأخرى التي انطلقت مثل الهند وروسيا والبرازيل وهي مع جنوب أفريقيا والصين تشكل تجمعا اقتصاديا اسمه "البريكس" لأسرع الاقتصادات نموا في العالم، ومن الضروري النظر لتجارب بلدان أخرى مثل كوريا الجنوبية وماليزيا وسنغافورة وإندونيسيا وإمارة دبي، ومن المهم أن يضع السيسي زيارة هذه الدول على أجندته لأن النهضة الموعودة في مصر تأخرت كثيرا جدا. ميزة الصين أن لديها إصرار على النجاح، ويظهر ذلك مثلا في مكافحة الفساد الذي لا تتهاون فيه، فقد تزامن مع زيارة السيسي إحالة قيادي بارز في الحزب الشيوعي للمحاكمة بتهمة الفساد، وهو كان الرجل الثاني في الحزب في عهد الرئيس السابق، وهذا يضمن للسلطات هناك شفافية ونزاهة والحفاظ على المال العام والانضباط في جهاز الدولة ورسالة الانضباط تنتقل بالتبعية للمواطنين أيضا. ليكن لدينا عزيمة على النجاح هذه المرة، وليكن لدينا إصرار على محاربة الفساد في كل أجهزة الدولة، وفي كل مناحي الحياة ، وليكن لدينا إصرار على التطبيق الصارم للقانون، لكن بعدالة تامة، ولنسعى إلى تحسين المناخ السياسي، وإحقاق الحقوق، ورفع المظالم ،والحفاظ على حقوق الإنسان والحريات، فهذا سيمثل رافعة كبيرة للتكاتف الوطني من أجل الاستيقاظ من رقدة أهل الكهف التي طالت، والخروج إلى نور الحياة والعلم والعمل والبناء والتطور. مصر لا تتحمل مزيدا من استهلاك الوقت دون نتيجة، ولا تتحمل إخفاق تجربة جديدة. النجاح هذه المرة مسألة حياة أو موت. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.