أن تنتقد بعض الثوار هو مرادف -عند البعض- لانتقاد الثورة نفسها والوقوف فى طريقها، وأي طائش هذا الذي يجرؤ على الوقوف فى وجه قطار سريع يمضي بلا سائق وبلا مكابح؟ أخشي ما أخشاه ان تتحول الثورة إلى مارد مجنون يفتك بكل من يقف فى طريقه حتى ولو كان صديقا أو ناصحا. احتفي الثوار بشرف وحملوه على الأعناق وهتفوا باسمه حتى جرحت حناجرهم، ورسموه رئيسا لحكومتهم من ميدان التحرير، ولم يتوان الرجل بعدها لحظة على الرغم من كل تلك الضغوط والقيود والواضحة لكل منصف والتى تكبل حركته وتغل يده، ولم تمض شهور أربعة -كان الرجل فيها مثالا للأمانة والجدية والنشاط- حتى خرجت نفس الحناجر تهتف فى نفس المكان الذي نصبوه فيه بسقوطه. والجيش الذي استقبله الناس بالأعلام والهتافات وتبادل الخبز والسلامات والابتسامات مع جنوده صار موضع شك واتهام ولم تشفع للجيش مواقفه الزاهرة منذ بداية الثورة أمامها، وعلى الرغم من اختبار غضب الجيش أكثر من مرة كان الجيش فيها نموذجا للحكمة ومثالا لضبط النفس. وصورة اللواء الفنجري وهو يؤدي فى بيانه الشهير التحية العسكرية لشهداء الثورة والتى ملأت صفحات الفيسبوك، حل محلها صورته وهو يشير باصبعه في خطابه الأخير، وحل التندر والاستخفاف محل التقدير والاحترام . والميدان الذي شهد بطولات الاخوان ومواقفهم في أحلك أوقات الثورة، هو نفسه الذي شهد هتافات البعض تطالب بطردهم متهمين إياهم بخيانة الثورة وخذلانها. ومشهد الصدور التى تلتف حول أحد رموز الثورة د. صفوت حجازي مفتدية إياه أيام الثورة، حل محلها مشهد وجوه غاضبة شرسة تحاول الاعتداء عليه لمجرد شائعة سرت أنه جاء لاقناعهم بفض اعتصامهم. والثورة التى أكدت من اول أيامها أنها سلمية باتت تهدد باغلاق قناة السويس، والثوار الذين وقفوا يحمون المتحف من السرقة وأبهروا العالم وهم ينظفون شوارع بلدهم بعد ثورتهم، أغلقوا مجمع التحرير وعطلوا مصالح العباد ثم منوا بعدها بأيام بالسماح بفتحه. وأنا على يقين –مثلك- أن من فعلوا شيئا مما سبق وغيرهم أنهم فئة معدودة ومحدودة ولا تمثل عموم الثوار بأية حال. وعلى الرغم من يقيني هذا إلا أن ما استفزني أنهم للأسف نصبوا أنفسهم حراسا للثورة وقدموا أنفسهم على أنهم المالك الأصلي لميدان التحرير، وأصحاب الحقوق الحصرية فيه لاصدار الأحكام التى لا تقبل حتى المناقشة والاعتراض. وللأسف فقد حولوا الثورة إلى صنم كبير هم كهنته وسدنته ولا يجرؤ أحد على المساس به أو التعرض لهم بسوء، وكلما زدت فى قرابين الغضب وزايدت لاشعال الفتنة كلما رضوا عنك وأعطوك صكوكهم الثورية. وبسبب محاولة هؤلاء لتنصيب أنفسهم حكماء الثورة بأموالهم التى جعلت أحدهم يقولها صراحة : هذه منصتي وأنا اشتريتها بأموالي، وإعلامهم الذي يمالق الثائرين ويغازل الغاضبين وينفخ على كل نار فتنة مع النافخين، وحسن نية البعض من الملتفين حولهم، جعلوا الثورة تبدو للجميع مذبذبة المواقف مترنحة الخطوات، واقفة حائرة مكانها وهي تمسك بيدها بوصلة تائهة وخريطة لا ملامح لها. صدقوني إنها أساليب رخيصة ومزايدات لا وزن لها فى عالم البطولات والأمجاد. أقولها حزينا بملء فمي إن عموم الثورة -وبسبب ممارسات أمثال هؤلاء- باتت تفتقد الآن لأدني مستويات التعقل والحكمة هذا إذا استثنينا فصيلا أو أكثر بحركتهم المنضبطة ورؤيتهم الواضحة . تتحرك الثورة معهم بقلب كقلب الأسد وعين كعين الصقر لكنها مع ذلك للأسف لا تري أبعد من حدود خطوتها بسبب كثافة الضباب حولها، وحينما ينزل الضباب، ويملأ الطرقات ويغطي الآفاق، وتاهت الخطوات متلمسة مخرجا متسائلة هل إلى خروج من سبيل، حينها صدقني لن ينفع قلب الأسد ولن تغني عين الصقر شيئا، وربما كان كل ما نحتاجه وقتها سلحفاة طيبة تعرف طريقها جيدا وتمضي فيه بلا ملل ولا كلل. هبط الضباب علينا شئنا أم أبينا، وصار حلفاء الأمس فرقاء اليوم، وحلت نظرات الشك محل التقدير، والكراهية محل المحبة، وكادت اليد واحدة أن تصبح مثني وثلاث ورباع. وفي هذه الأجواء وتحت هذه الظروف - قد تخطئ الأحكام، وتطيش السهام، ويقصي الناصح الأمين ويرفع المنتفع الخسيس. المشكلة فى ثورتنا تلك انها ثورة بلا قائد وجسد بلا رأس، وبلد قوامه 80 مليونا لن تعدم فيه أي فكرة وأية دعوة -مهما كانت طبيعتها- أن تجد عشرة آلاف نصير يجتمعون في التحرير ويوقفون الحياة لو لم يُسمع لمطالبهم ذات السقف المطاطي. أيها الثوار .. الثورة تحتاج منا الآن جهدا مكثفا للبناء لا الهدم، وتطلب منا الالتفاف حول الحكماء لا السفهاء، وتركيز جهودنا على ترميم الجدار لا إحداث المزيد من الشقوق، وهذا لا شك سيحتاج جهدا مضنيا من كل مخلص، وإذا كانت صناعة الأصدقاء فنا، فصناعة الأعداء يستطيعها كل أحمق، وإذا احتاج اطفاء النار لجهد فريق باكمله وعرق الكثير من الرجل لاطفائها، لا يحتاج اشعالها سوي عود ثقاب بيد أي معتوه. أيها الثوار .. ليتنا نجتمع على كلمة سواء، ولا نخسر المزيد من الحلفاء والأصدقاء وتحويلهم لخانة الأعداء بحسن نية منا، وليتنا نقدر لكل أحد جهده وجهاده وقدره، ونتجاوز عن بعض هفواته، فبجوارنا أحوال أخري تعطينا اشارة لبعض الاحتمالات التى كان من الممكن أن نتورط فيها، وأعجبتني كلمة لمرشد الإخوان د.محمد بديع :قدروا لجيشكم موقفه ، فبجواركم جيوش تقتل شعوبها ... أيها الثوار .. لا تكسروا الاناء وأنتم تحاولون رعاية الزهور.. ليست الحكمة بالوقوف فى وجوه الجميع لأجل ما تراه أنت حقا، وإنما باتخاذ أصلح الخطوات التى تحقق صالح هذا الحق الذي تؤمن به. وصدق الله العظيم إذ يقول "ومن يؤتي الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا" أيمن السكري [email protected]