هى ثورة عبقرية لأنها استطاعت مبكّرا أن تشخّص الخلل فى أداء السلطة تجاه تحقيق مطالبها، رغم الوعود وتأكيد الوعود، بأن العمل جار فى هذا السبيل.. ودليل عبقرية الثورة أنها استطاعت أن ترى أن تغيير الفساد، يستحيل أن يتحقق بأداة فاسدة .. ولذلك رفضت منذ البداية عمر سليمان، وأحمد شفيق.. لقد خرجت بعض القيادات الحزبية بتصريحات ساذجة تمتدح هاتين الشخصيتين.. ولكن الثوار بحسّهم الثوري كان لهم رؤية أخرى أقوى نفاذا وأشد نقاءً.. ومرجع ذلك إلى ما أسميه " البراءة الأصلية" براءة الحدْس الثوري الذى لا تكبّله العبارات النمطية، والقوالب الفكرية المتكلّسة، بفعل تراكم الإحباطات.. والتلهّف على أى شيء تجود به السلطة .. وهى عادة عقلية استقرّت على مدى العقود تحت وطأة منظومات قمعية متسلّطة.. كان للثوار رأي آخر أصروا عليه فسقط عمر سليمان سريعا ثم سقط أحمد شفيق مؤخرا.. ليحل مكانه رجل من اختيار الثُّوار، هو الدكتور عصام شريف.. فى هذه اللحظة انزاحت الحصاة المخفية التى عطّلت جهاز الدفع فى قطار الثورة وأعاقته فترة من الوقت عن الانطلاق فى طريق التغيير المنشود.. نحن إذن على أبواب مرحلة جديدة ينبغى أن نتوقّف عندها لحظات لنتأمل فى حصيلة ما تجمّع فى حوزة الثوار من عوامل القوة والطاقة، ولننظر فيما ينبغى عمله لاندفاع قطار الثورة بدون عوائق فى المرحلة التالية: أولا: كانت دعوة الثوار لرئيس الوزراء الجديد للحضور إلى ميدان التحرير لحلف اليمين أماام جماهير الشعب لفتة عبقرية من عدة وجوه: [1] هى اختبار لمصداقيته وشجاعته فإذا حضر أضاف إلى مؤهلاته شهادة [ارتباطه المصيري] بطموحات الشعب ومطالبه، واستحق بذلك ثقة الشعب. وإذا اعتذر عن الحضور.. وُضع فى خانة الشك للتعامل معه بحذر حتى يثبت حسن نواياه .. وقد نجح الرجل فى هذ الاختبار.. [2] كان حضور الرجل وخطابه فى ميدان التحرير ظاهرة جديدة تشير إلى أننا أمام مرحلة فى العمل السياسي العام [جادة وشفافة].. خصوصا أنه قد أكّد فى خطابه: أنه قبل الوظيفة ليحقق للشعب مطالبه.. وأنه إذا لم يستطع فسيعود إلى ميدان التحرير ليعمل فى صفوف الثوار مرة أخرى.. [3] على رأس ذلك كلّه وفى ذروته، أن هذا الرجل جاء وهو على يقين أن "ترشيح" المجلس العسكري له ليس هو الشرعية التى يطمح إليها.. وأن الشرعية الحقيقية التى يسعى إليها يملكها الشعب وحده.. هنا فى ميدان التحرير..! وقد أكد هذا المعنى فى خطابه.. وكانت استجابة الجماهير له على نفس المستوى.. فقد حملوه على أعناقهم فى مشهد لم سبق له مثيل، فيما نعرفه من تارخ مصر الحديث.. لقد أكّد الشعب شرعيته وأنه مصدر السلطة.. وأكّدها رئيس الوزراء بكلامه ومسلكه وبدا هذا واضحا فى لهجته المخلصة.. " و هنا ملاحظة على الصحافة ووسائل الإعلام الأخرى التى تصرّ على وصف عصام شريف بأنه رئيس الوزراء [المُكلّف].. والحقيقة أن الوصف الصحيح لعصام شرف أنه رئيس الوزراء[ المنتخب] انتخابا شرعيا مباشرا من الملايين من أبناء الشعب.. بما يشبه الإجماع.. وتلك أيضا ظاهرة فريدة فى تاريخ مصر .. ثانيا: لقد ثبت أن عصام شرف رجل عَصيّ على الفساد والإفساد.. وهو صاحب همة وعلم وخبرة.. مع شجاعة و أصالة ثورية.. وكل ذلك يجعله بحق رجل المرحلة القادمة بجدارة.. وقد اكتسب قلوب المصريين وثقتهم.. وتعلّقت به آمالهم .. وأنا لا أخشى عليه من الضغوط إو الانحراف.. ولكنى أخشى على حياته من مؤامرات عصبة الفساد التى لا تزال متغلغلة فى ثنايا أجهزة السلطة، وخارجها.. فلا يمكن أن نتغاضى عن حقيقة أنه يوجد على الساحة أعداد من قيادات النهب والفساد كانت تعتبر حكومة أحمد شفيق ملاذا آمنا لهم لبعض الوقت حتى يتمكنوا من إعادة صفوفهم لتطويق الثورة والعودة إلى السلطة مرة أخرى.. هذه القيادات المتربّصة موجودة فى جهاز مباحث أمن الدولة.. و فى الحزب الوطني.. وهؤلاء لا يهمهم الشعب ولا يعبأون بمصالح الوطن وأمنه، بل هم مستعدون لتدمير كل شيء فى هذا الوطن.. ومستعدون لإراقة الدماء.. و هم متمرسون بتدبير المؤمرات والقتل والتخريب.. وخلاصة القول فيهم أن استمرار وجودهم خطر على رئيس الوزراء عصام شريف وخطر على الثورة وعلى الأمة.. ولا بد للجيش أن يضع هذا فى حسابه ويوفرّ أقصى حماية ممكنة لرئيس الوزراء الجديد..؟! ثالثا: جهاز مباحث أمن الدولة وقيادات الحزب الوطنى معا، يحتفظون بشبكة من العلاقات العنكبوتية بأجهزة السلطة القائمة: من المحافظين ومديرى الأمن.. وفى كل الإدارات المحلية.. بجميع محافظات مصر.. ويدخل فى شبكة العلاقات السرية هذه عشرات الألوف من البلطجية وأصحاب السوابق والمسجلين خطر [كما يسمونهم].. وهذه التركيبة الإرهابية خطر على الثورة الشعبية وعلى أمن البلاد.. وهى بصفة خاصة العائق الأساسي لإقامة حياة ديمقراطية مستقرّة فى مصر.. من الناحية الإجرائية لا بد أولا من التحفظ على هذه القيادات وتجريدها مما فى يدها من سلطة و مال.. و لا شك أن التحفظ عليهم.. افضل لهم شخصيا وأفضل لأمن البلاد.. أما بالنسب لأمن البلاد فقد أفضنا فى شرحه.. أما بالنسبة لهم فإن وضعهم فى المعتقلات لمدة سنة رهن التحقيق أضمن لحياتهم الشخصية.. حيث أن وجودهم بين الناس مع تواتر المزيد من قصص جرائمهم سوف يجعلهم عرضة للانتقام الشعبي المتفجّر.... أكتب هذا المقال وأنا أرى على التلفاز مشاهد حشود الجماهير فى الاسكندرية (مساء يوم الجمعة 4 من مارس2011) تحاصر مبنى مباحث أمن الدولة وتتربص بأفراده.. ولو كانوا قد خرجوا إليهم لمزّقتهم الجماهير شر ممزَّق.. هذه الحشود الغاضبة سوف تؤدّى إلى انفجار شعبي إذا طال وجود هذا الجهاز، دون اتخاذ قرار فوريّ بحلّه والتحقيق مع قياداته... *********** أعود لاستكمال هذا المقال صباح يوم السبت الخامس من مارس 2011 ، حيث الأخبار تترى بوتيرة أكثر تسارعًا.. فنعلم منها أن قوات من الجيش اقتحمت مقر أمن الدولة فى الاسكندرية بعد أن سقط عدد من جرحى المتظاهرين نتيجة إلقاء قنابل ملتوف عليهم من جانب ضباط مباحث أمن الدولة .. والمهم هنا أنهم اكتشفوا أن الضباط كانوا يحرقون كميات كبيرة من الوثائق.. ولا بد أنها وثائق تدينهم.. وتكشف جرائمهم.. لذلك أتصوّر أن حلّ هذا الجهاز واعتقال قياداته وحجزهم بعيدا عن مكاتبهم وبعيدا عن متناول الجماهير، تمهيدا لمحاكمتهم هو الوضع الأمثل.. فإذا ثبت من المحاكمات أن بعضهم بريء وأفرج عنه فسوف يكون هذا الحكم حصانة له من الغضب والانتقام الشعبي.. وأضيف نقطة بالغة الأهمية: فمثل هذه الأجهزية الأمنية (حتى فى البلاد الديمقراطية).. بحكم طبيعتها السرية.. وسيطرتها على مخصصات مالية كبيرة، لا رقيب عليها ولا حسيب، تميل إلى توسيع أمبراطوريتها طول الوقت، وتوجّه طاقتها إلى المحافظة على سلطاتها الخفية، وامتيازاتها، فإذا فكر السياسيون فى تخفيض ميزانياتها، لا تتورّع عن ارتكاب جرائم تخريب وقتل غامضة، حتى تؤكّد أهمية وجودها للحافظ على الأمن.. أذكر فى هذا الصدد واقعة ل"آزيو" جهاز مخابرات أستراليا فى سبعينات القرن الماضى، الذى حرّض بعض عملائه على وضع قنبلة فى صندوق قمامة أمام فندق هيلتون بسدنى، انفجرت صباح اليوم التالى فى اثنين من جامعى القمامة وأحد حُراس باب الفندق فقتلتهم، وجرحت عددا من المارّة.. وكان الفندق فى ذلك الوقت مقر انعقاد لمؤتمر قمة دول الكومنويلث، ومن ثم أجبرت الحكومة على التراجع عن قرارها فى تخفيض ميزانية الجهاز.. فما بالك بجهاز ذاعت شهرته فى القتل والتعذيب، وارتكاب أبشع الجرائم ، من قبيل نسف كنيسة القديسين فى الاسكندرية، علاوة على جرائم الاتجار فى المخدّرات والتستر على أصحابها، والتغلغل فى صناعة الدعارة ، وحمايتها وفرض إتاوات مالية على أصحابها.. وموضوع الإتاوات المفروضة على الناس فى مصر يصعب حصرها فى كتب. لكل هذا لن املّ من التنبيه مرة بعد مرة إلى أن علاج جهاز أمن الدولة ليس ب[إعادة هيكلته] كما يصرح وزير الداخلية .. وإنما علاجه الوحيد والناجع هو إلغاؤه من الوجود تماما.. والمعادلة بسيطة جدا: هذا الجهاز بصرف النظر عن فساده وجرائمه .. لم يكن له فائدة تذكر على الاطلاق لأمن مصر خلال ثلاثين عاما مضت.. وإذن فمن المنطقي جدّا أنه يمكن الاستغناء عن خدماته ثلاثين عاما أخرى.. بلا أى خسائر تترتب على ذلك..! هذا منطق بسيط يمكن أن يفهمه وزير الداخلية الذى يتحدث عن إعادة هيكلة جهاز مباحث قمع الدولة.. فليوفر الرجل على نفسه وعلى الشعب هذا الجهد الضائع والمال المهدور.. الذى يحتاج إلى إعادة هيكلة حقا هو وزارة الداخلية نفسها وتغيير وزيرها الذى يبدى عجزا مذهلا عن التحكم فى سلوك جهاز بوزارته يشعر بنهايته فيحرق جميع الملفات ويدمر أجهزة الكمبيوتر التى تدينه وتكشف عن جرائمه.. فأى إعادة هيكلة يتحدث عنها وزير الداخلية.. كأنه ينظر إلى العالم من كوكب المريخ..؟؟! ياسيادة الوزير إن أمامك مجموعة ن الناس تحتل مقرّات ما يسمى بمباحث أمن الدولة.. هم عصابة من المجرمين لا عمل لهم .. يشعلون النار فى داخل مباني حكومية ويدمرون أجهزة ويحرقون مستندات.. ألق القبض عليهم وقدّمهم فورا إلى المحاكم.. إن المسألة لا تحتاج إلى لواء كبير، لإدارة هذه الوزارة، بل إلى مدير إدارة قادر ودارس وفاهم للسياسة.. ولا بد أن يكون مدنيا من خارج هذه المؤسسة.. ليضمن أن تحقق الشرطة وظيفتها الصحيحة وواجبها الأساسي كجهاز فى خدمة الشعب... إن بريطانيا العظمى بجلالة قدرها، على رأس وزارة داخليتها سيدة مدنية تسمى "تريزا ماي" بلا نياشين ولا رُتب ولا ألقاب عسكرية...! ولكن لديها من الشجاعة والشعور بالمسئولية والقدرة على أن تمنع مثل هذا العبث الإجرامى الذى يجرى فى مقرّات جهاز مباحث أمن الدولة المصري.. حتى ولو كان حرق وثيقة واحدة.. لأنها تعلم أن حرق وثيقة واحدة سيؤدى بها إلى أن تفقد وظيفتها.. بل مستقبلها السياسي كله. [email protected]