لم أكن أعلم إننى منذورة منذ طفولتى الغضة لخلق حيوات متعددة كتلك التى عبرت عليها ثنايا ذاكرتى المكتنزة بحكايات جدى الشهية والتى كانت كثيرًا ما تنسينى لذة النوم فى ليالى الشتاء الطويلة تحت الغطاء الوثير. (1)القرية!
لم أكن أتصور وأنا الطفلة الأولى لعائلة ريفية ميسورة الحال نعمت بالتدلل وعشت فى بيت يجمع بين دفتيه ترمح بقدميها على جسر القرية المؤدى إلى المدرسة أننى سوف أمرر عليه شخصياتى الحية التى من لحم ودم . فى قريتى منية سمنود إحدى قرى الدقهلية العظيمة .. تلك الرابضة فى حضن النيل والتى تزخرف أحد اتجاهاتها الجغرافية جزر الموز وأشجار الكافور والجميز العتيقة كانت بداياتي.. بدايات مفعمة بدراما غنية ما تكاد تنطفئ إحداها حتى تشتعل آلاف غيرها مرة أخرى عبر شخصية رأيتها فأدهشنى سمتها فحفرت فى مخيلتى أو عبر موقف عايشته فظل مخزونًا فى دولاب ذكرياتى أو أشخاص تخيلتهم فصنعت معهم الحكايات وعشتها فى خيال لا تنقصه سذاجة الأطفال. جدى لأمى كان رجلاً صوفيًا لا يعرف من الدنيا سوى غيطه وأبقاره و"ليالى الحضرة" التى كانت أجمل الليالى فى مخيلتي.. حيث "المندرة" الكبيرة والرجال ذوى الجلابيب الكالحة وكوفياتهم الصوفية التى يتلفعون بها من صقيع الشتاء وشعرهم الأشيب الذى تبدو ذوائبه عبر الطواقى العالية كأنها طود شامخ. تركت ليالى الحضرة فى أعماقى دفء الثرثرة ودهشة محاولاتى المستميتة فى فك طلاسم ما تبوح به أفواه الرجال الذين علا الشيب رءوسهم وتهشمت أسنان بعضهم الأمامية فى وجوه لم تخلُ من الإرهاق والرضا! وما بين خاتمة إنشادهم الرقراق والأخرى تطوف علينا أكواب القرفة الساخنة فتعبق رائحتها جو المكان وتترك فى روحى لمساتها الشجية التى تطفو على السطح كلما سمعت زخات المطر أو هبت نسمات الشتاء الباردة. كانت جدتى تحتفظ بأكوابها المصونة فى دولاب الفضة خصيصًا لليالى الحضرة المباركة، والتى كانت تقول متفاخرة فى كل مرة تخرجها فيها: أن أباها الشيخ الأزهرى أحضرها لها من عند النبى صلى الله عليه وسلم حين كان يؤدى فريضة الحج لذا كانت تأبى أن يشرب فيها غير ضيوف جدى الذاكرين، الساجدين المهللين المسبحين حتى تحصل على أكبر قدر من الحسنات!! تعلمت من جدى لأمى الصفاء الروحى والإيمان العميق بالقضاء والقدر والعطف والشفقة على الآخرين .