60 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات في محافظات الصعيد    بعد الاتفاق التجاري الضخم مع ترامب، رئيس الوزراء الياباني يعتزم الاستقالة    اليوم، الأهلي السعودي في مواجهة نارية أمام كومو الإيطالي، الموعد والقنوات الناقلة    50 ألف جنيه مكافأة من حزب الجبهة الوطنية لأوائل الثانوية العامة    استعلم الآن.. رابط نتيجة الثانوية العامة 2025    ترامب يعلن عن إطار جديد لاتفاق تجاري مع اليابان    مجلس الأمن يعتمد قرارا لحل النزاعات بالطرق السلمية    قفزة ل الدولار الأمريكي اليوم الأربعاء 23-7-2025 عالميًا.. وانخفاض بقية العملات الأجنبية    تحرك مفاجئ في أسعار النفط بعد الاتفاق التجاري "الضخم" بين واشنطن وطوكيو    10 عمال زراعة.. أسماء المصابين في حادث انقلاب سيارة ب«صحراوى البحيرة»    حريق يلتهم محلين تجاريين وشقة في أسيوط    قصف موقع قيادة للاحتلال وتدمير ناقلة جند إسرائيلية ب قذيفة «الياسين 105»    سعر اليورو اليوم الأربعاء 23 يوليو 2025 مقابل الجنيه.. بكام في الأهلي ومصر؟ (آخر تحديث)    عودة القائد.. حارس الصفاقسي يرحب ب معلول (صورة)    الصفقات الجديدة والراحلين يشعلون غضب يانيك فيريرا في الزمالك.. تقرير يكشف    مؤشرات تنسيق كليات الحاسبات والمعلومات والذكاء الاصطناعي 2025.. الحد الأدنى للقبول علمي علوم ورياضة    «زي النهارده» في ‌‌23‌‌ يوليو ‌‌1952‌‌.. قيام ثورة ‌‌23‌‌ يوليو ‌‌1952    فيتو داخل منزل نوران نبيل السادسة على الجمهورية: أفتخر بلقب أخت الدكاترة ومثلي الأعلى مجدي يعقوب (فيديو)    تظلمات نتيجة الثانوية العامة 2025 «الخطوات والرسوم والمواعيد الرسمية»    حمزة نمرة يطرح اليوم الدفعة الأولى من ألبومه "قرار شخصي"    نقابة الموسيقيين اللبنانية عن تقبيل راغب علامة في حفل العلمين: تعبير عن محبة واحترام    طريقة عمل الحواوشي بالعيش، أحلى وأوفر من الجاهز    لنقلهم إلى درعا.. دفعة جديدة من الحافلات تصل السويداء لإخراج المحتجزين    ترامب يتهم باراك أوباما بالخيانة بشأن تدخل روسيا في انتخابات 2016    بانوراما أيامنا الحلوة تجسّد مشاعر الحنين إلى الماضي على المسرح المكشوف بالأوبرا    إحالة وزيرة فرنسية وكارلوس غصن إلى المحاكمة.. ما السبب؟    فيروس شيكونجونيا.. ما هو وباء البعوض الذي حذرت منه منظمة الصحة العالمية ويهدد 5 مليارات شخص؟    رئيس اتحاد الخماسي يُكرم طالب بني سويف الأول على الجمهورية ب100 ألف جنيه    إعلام فلسطيني: الاحتلال يشن غارات على دير البلح وخان يونس    لمدة 7 ساعات.. قطع التيار الكهربائي عن 12 منطقة في البحيرة    بعد ظهور نتيجة الثانوية العامة 2025 .. نصائح لاختيار الجامعة والكلية المناسبة لك    رئيس "بنك الطعام": نقدم نموذج شمولي فريد بالتعاون مع 5 آلاف جمعية    الأولى على الثانوية العامة شعبة أدبي ل«المصري اليوم»: «بكيت فرحًا وسألتحق بالألسن»    سعر طن الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الأربعاء 23 يوليو 2025    «الأهلي بياخد الدوري كل أثنين وخميس».. نجم الزمالك السابق يتغنى ب مجلس الخطيب    تعليم البحيرة تهنئ الطالبة نوران نبيل لحصولها على المركز السادس فى الثانوية العامة    شخص مقرب منك يؤذي نفسه.. برج الجدي اليوم 23 يوليو    محمد التاجي: جدي «عبدالوارث عسر» لم يشجعني على التمثيل    محمد التاجي: فهمي الخولي اكتشف موهبتي.. ومسرح الطليعة كان بوابتي للاحتراف    الرابعة على الثانوية: تنظيم الوقت سر النجاح.. وحلمي أكون طبيبة    فرصة لإدراك تأثير جروح الماضي.. حظ برج القوس اليوم 23 يوليو    جامعة الإسكندرية تستقبل وفد المركز الإعلامي الأوزبكستاني    كتائب القسام: قصفنا موقع قيادة وناقلة جند إسرائيلية بالقذائف والصواريخ    منها السبانخ والكرنب.. أهم الأطعمة المفيدة لصحة القلب    «الإندومي» والمشروبات الغازية.. أطعمة تسبب التوتر والقلق (ابتعد عنها)    بدون أدوية.. 6 طرق طبيعية لتخفيف ألم الدورة الشهرية    دروجبا: محمد شريف هداف مميز.. والأهلي لا يتوقف على أحد    وساطات بتركيا تسعى لإطلاق سراحه .. إعلام "المتحدة" يُشيع تسليم محمد عبدالحفيظ    محافظ الشرقية يهنئ ياسمين حسام لتفوقها: نموذج مشرف لأبناء المحافظة    من 4% إلى 70%.. الطالبة ميار حماده تحقق قفزة دراسية لافتة في قنا    درس حصوله على الجنسية المصرية.. شوبير يكشف مفاجأة بشأن وسام أبو علي    إلى الحبيب الغالي.. رسالة من ممدوح عباس إلى حسن شحاتة    موندو ديبورتيفو: الخطيب بحث إمكانية مواجهة برشلونة بافتتاح استاد الأهلي خلال زيارة لابورتا    ما حكم الاعتداء على المال العام؟.. أمين الفتوى يجيب    ما هي كفارة اليمين؟.. أمين الفتوى يجيب    هل يجوز الوضوء مع ارتداء الخواتم؟.. عضو بمركز الأزهر تجيب    أدعية لطلاب الثانوية العامة قبل النتيجة من الشيخ أحمد خليل    حملة دعم حفظة القرآن الكريم.. بيت الزكاة والصدقات يصل المنوفية لدعم 5400 طفل من حفظة كتاب الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حدائق القرفة وطريق التوابل.. وتواريخ التجارة والحروب د. صبرى حافظ
نشر في التحرير يوم 22 - 02 - 2014

وجدت وأنا أبحث عن آثار العرابيين فى سيريلانكا أكثر من ذكر لحدائق القرفة
التوابل هى سر ازدهار سيريلانكا وسر مآسيها على مر العصور فى الوقت نفسه
دخل طريق التوابل عصرا جديدا من الصراعات والحروب الضارية التى امتد بعضها لعشرات السنين
نعرف من المصادر التاريخية أن أوروبا لم تحصل على أى من التوابل إلا بعد معرفة الشرق العربى لها بقرون
القرفة بالنسبة إلى سيريلانكا كالنفط بالنسبة إلى البلاد العربية الغنية به
لم يغرنى السائق بأهمية أن أرى ملجأ الفيلة فى الطريق إلى كاندى فحسب، وإنما بضرورة التعريج على حدائق القرفة وزيارتها فى الطريق. والواقع أن القرفة التى نعرفها فى مصر كمشروب ساخن يبعث الدفء فى الأوصال فى الشتاء، ثم اكتشفت فى ما بعد، وعقب انتقالى إلى الغرب أن لها كثيرًا من الاستعمالات فى الطهى وخبيز الفطائر والشطائر، تستدعى عندى أجمل ذكريات الطفولة. حينما عادت أسرتنا إلى القرية التى ولدت فيها، شبرابخوم، وهى قرية عريقة من زمن الفراعنة، كما يدل على ذلك اسمها، فى محافظة المنوفية، بعد أعوام فى القاهرة. وسنة فى مدينة إدكو الساحلية التى كانت جميلة وقتها، ولا تزال محاطة فى ذاكرتى كطفل بإطار ساحر من الرمل النقى النظيف، والنخيل القصير الذى تتدلى منه سباطات البلح دانية، ولكن بعيدة المنال ونائية فى الوقت نفسه، ومزارع الكروم وعناقيد العنب. عدت إلى القرية فى العاشرة من عمرى، فاكتشفت أن لى جدا رائعا، هو جدى لأبى. لأن جدى لأمى كان قد مات وهى لا تزال بعد فى لفائف الميلاد. وكان يتمها المبكر ذاك، والذى حفرته فى وعى أبنائها، من عوامل قوة شخصيتها وصلابة شكيمتها فى ما أظن. عدت إلى القرية فى العاشرة فاكتشفت كم أن عالم القرية ضيق ومحدود بعد عوالم القاهرة الثرية فى منطقة بركة الفيل والحوض المرصود، وسينما إيزيس، وسينما الهلال الصيفى، حيث ما زلت أذكر أولى زياراتى لها لمشاهدة أسمهان وهى تصدح فى فضائها المفتوح بأغنية «أهوى.. أسقى بأيدى قهوة» وهى توزع القهوة بيمناها، وتدمى القلوب بلِحاظِها ومرآها، حينما صحبنى أبى معه لمشاهدة فيلم «غرام وانتقام» عقب موت أسمهان المأساوى.
لكن ما جعل عالم القرية محتملا، بل وجميلا بالنسبة إلى هذا الصبى، الطُّلعة الشغوف باكتشاف كل جديد، كان جدى محمد بقوامه الشامخ المهيب، ومنكبيه العريضين، ومهاراته اليدوية اللا متناهية، وطيبته التى لا تعرف الحدود. فقد كان مليئا بالحكايات عن الزمن القديم، وقد قضى بحق حياة مترعة بالحكايات الوطنية ومقاومة الإنجليز، قبل أن يعود إلى القرية مفصولا من عمله بسبب مشاعره الوطنية، ومواجهته الحاسمة مع رئيسه الإنجليزى. وكان يصحبنى معه كل خميس إلى «الحضرة» الصوفية التى كان ينتمى إلى طريقتها، والتى تقيم «ذكرها» وابتهالاتها ومدائحها كل أسبوع. ومع أننى كنت صغيرا لا أستطيع استيعاب ما كان يدور بينه وصحبه من نقاشات صوفية وقضايا روحية، فلا تزال تتردد فى أذنى وأنا أكتب هذا الآن، وبعد حين من الدهر، صورة الحضرة الصوفية وأصداء موسيقاها وإيقاعاتها الشعرية على وقع الذكر الذى كان دائما ما ينتهى ب«جذبة» أحد المشاركين، وتحليقه بعيدا عما حوله، وصراخ الآخرين فى أذنه «وحّد الله!».
لكن أهم ما احتفظت به من تلك السهرات الأسبوعية مذاق كؤوس القرفة أو فناجينها الصغيرة التى كانت تدور على الحضور أكثر من مرة فى الليلة الواحدة، وكنت أستمتع بها وأستعذب مذاقها اللذيذ ونكهتها الحلوة. بالصورة التى جعلت هذا المشروب الجميل يرتبط فى ذهنى بتلك الأجواء الروحية العطرة. لذلك ما إن ذكر لى السائق أننا سنمر على حدائق القرفة حتى ملأنى الشغف لزيارتها. ففى العنوان وحده «حدائق القرفة» قدر جذّاب من الغرائبية التى تستثير الشغف وحب الاستطلاع، خصوصا أننى وجدت وأنا أبحث عن آثار العرابيين فى سيريلانكا أكثر من ذكر لحدائق القرفة، بما فى ذلك اسم المناطق التى انتقل كثير منهم إلى العيش فيها، بعد استقرارهم فى الجزيرة، لذلك أردت أن أعرف ما حدائق القرفة تلك؟ وهل لها علاقة بالحديقة كما نعرفها؟ أم هى مجرد بساتين من نوع ما؟
وبعد أن تركنا ملجأ الأفيال، وانطلقنا بالسيارة فى الطريق لعدة كيلومترات، توقف السائق بسيارته فى مكان على جانب الطريق، كان عبارة عن موقف لعدد محدود من السيارات، قائلا: هذه حدائق القرفة. ولم يكن المكان مختلفا كثيرا عن الأشجار الممتدة على جانبى الطريق، فى هذا الطريق الزراعى الذى يمر بين مزيج من المزارع والقرى، بما فى ذلك مزارع الموز أو حقول الأرز الشاسعة، والأشجار الكثيفة التى لا تعرف إذا ما كانت جزءا من غابة أم أنها جزء من بستان، لولا تنوعها الذى يجعلها أقرب إلى الغابة منها إلى البستان الذى نعرفه بأشجاره المتشابهة. وكان هناك ما يشبه المدخل على جانب موقف السيارات الذى يقود إلى عمق الأشجار أو الأدغال، حيث صحبنا شخص أشبه بالدليل السياحى، يتجول بنا فى حدائق القرفة تلك. ويشرح لنا مختلف ما بها من أشجار ونباتات عطرية. فوجدت من كثرة شجيرات التوابل ونباتاتها أننى فى مكان أقرب ما يكون إلى مزرعة للتوابل من الحديقة أو البستان، وإن تناثرت فيها كثير من الأشجار السامقة، ومنها كما اكتشفت أشجار القرفة الكبيرة منها أو الصغيرة.
وقد عرفت فى ما بعد أن المناطق البرية أو الغابات الطبيعية التى تنتشر فيها تلك الأشجار تسمى حدائق القرفة، وهى مناطق كثيرة وشاسعة فى سيريلانكا، ولكنها عادة لا تقتصر على تلك الأشجار وحدها، بل تضم معها أشجارا أخرى وأحراشا ومزروعات مختلفة لكثير من التوابل. وتعود أقدم إشارة للقرفة إلى المراجع الصينية وإلى عام 2700 قبل الميلاد، وقد أصبحت منذ اكتشافها أحد أهم التوابل، وركنا أساسيا فى تجارتها على مر العصور. والقرفة إن كنت لا تعلم هى لحاء واحدة من الأشجار دائمة الخضرة من عائلة شجر الغار ( ) . ومنها نوعان، أهمها النوع السيلانى أو السيرلانكى، وهى القرفة الأصلية والتى تسمى علميا ، ويصل ارتفاع أشجارها إلى أكثر من 10 أمتار، وتصل أحيانا إلى 15 مترا. والثانى القرفة الصينية الأرخص ثمنا والأقل قيمة والتى تستقى من لحاء شجرة ، وهى أيضا منتشرة فى كامبوديا وفيتنام وإندونيسيا.
ولما قلت للدليل السياحى الذى أخذنا للتجول فى تلك الحديقة أو الغابة أو المزرعة الشاسعة، وأخذ يشرح لنا الأنواع المختلفة من الأشجار والنباتات التى تنتشر فيها، أن هذه ليست حديقة للقرفة، وإنما هى أقرب ما تكون إلى مزرعة للتوابل، كان رده نعم! فالتوابل هى سر ازدهار سيريلانكا، وسر مآسيها على مر العصور فى الوقت نفسه، ولم يزد. وكأنه كان يلقى لى لغزا على إن أردت حله أن أبحث أكثر فى تاريخ تلك الجزيرة الجميلة. وقد اكتشفت بعد البحث عن دور التوابل فى تاريخ تلك الجزيرة، والتنقيب عن علاقتها المستمرة بتقلبات تواريخها، أنها بالنسبة إلى سيريلانكا كالنفط بالنسبة إلى البلاد العربية الغنية به، قد يكون نعمة، ولكنها نعمة لا تخلو من نقمة فى كثير من الأحيان. حيث جرّت عليها التوابل على الدوام مطامع الطامعين، فقد جاء من أجلها التجار والغزاة. فكلنا يعرف كيف كانت التجارة تمهيدا للغزو والاستعمار فى مرحلة السيادة الأوروبية من تاريخ البشرية، لكن التجارة فى التوابل لم تكن دوما تمهيدا للغزو والاستعمار فى الدورات الحضارية السابقة على تلك التى تسنمها الغرب. فقد سيطر العرب لقرون على تلك التجارة دون أن تتحول تلك السيطرة إلى استعمار بغيض، وإنما تركت آثارها الحضارية فى التبادل الثقافى منه أو السكانى على السواء، والذى تعرفنا على بعض ملامحه فى دعوة المسلمين فى الجزيرة بالسيريلانكيين العرب.
فقد كانت تجارة التوابل، مثلها فى ذلك مثل الحرير، من أقدم التجارات بين الدول فى العالم إن لم تكن أقدمها، حيث يقول المؤرخون إنها بدأت فى الشرق الأوسط قبل 4 آلاف سنة. وهى التجارة التى ربطت بين حضارات المنطقة العربية القديمة من مصرية وفينيقية وسومرية، والحضارات القديمة الواقعة إلى الشرق من عالمنا العربى، كالحضارات الهندية والصينية ووضعتها على خريطة وعى بقية العالم واهتماماته. ومع أن هناك كثيرا من الكتب عن تجارة الحرير وطريق الحرير، والذى كان يمتد من جنوب أوروبا عبر بلاد الشام وبلاد الرافدين إلى فارس والصين وجنوب شرق آسيا، فإن الدراسات عن طريق التوابل أقل من ذلك كثيرا، وإن كانت تجارتها أقدم من تجارة الحرير وأعرق. كما أنها كانت مركز ثقل التجارة العالمية لعدة قرون، بل لعشرات القرون، وبصورة لا تقل أهمية عن تجارة النفط الآن. ربما لأنها كانت تجارة شرقية فى المحل الأول، سيطر العرب على مقدراتها لقرون. ولم تصل أوروبا إليها وتلعب دورها الاستعمارى الكريه فيها إلا فى وقت متأخر نسبيا.
فثمة مصادر تثبت أن القرفة كانت تستورد من جزيرة سرنديب من زمن بعيد يعود إلى 1400 سنة قبل الميلاد، وأن الملك سليمان الحكيم استورد من ميناء «جول» الذى كان فى زمنه عاصمة لترشيش إلى مملكته اليمنية فى سبأ الطواويس والعاج والقرفة وغيرها من التوابل القيّمة التى عرفت بها جول فى الزمن القديم. فقد كانت تجارتا التوابل والحرير عماد التجارة العالمية فى تلك القرون الممتدة منذ بداية الألف السابقة على الميلاد، حيث كان يقوم بها المصريون والعرب والفينيقيون والهنود؛ وحتى بداية العصر الاستعمارى، وحاجة أوروبا الصناعية الصاعدة إلى أسواق لبضائعها. وقد استمرت تلك التجارة تمتد من الشرق الأدنى مرورا بالشرق الأوسط إلى الحواضر الأوروبية حتى أوقفها صعود الدولة العثمانية وقطعها الطريق على أوروبا فى القرن الخامس عشر.
وكان المصريون القدماء وشركاؤهم التجاريون من بلاد «بونت»، وهى بلاد يختلف المؤرخون الآن على موقعها وهل هى بلاد النوبة الآن، وقد امتدت زمنها حتى البحر الأحمر، أم أنها بلاد كانت تقع فى مكان ما يمتد من جنوب مصر إلى سواكن وحتى مناطق من إريتريا وجيبوتى؟ كانوا هم أول من بدأ تجارة التوابل وغيرها من البضائع الفخمة، أو ما ندعوها اليوم بالكماليات مثل الحرير والعاج والصدف والعطور والبخور والذهب والأحجار الكريمة وخشب الصندل والأبنوس وحجر السبج البركانى وجلود الحيوانات النادرة والعبيد. وكانوا هم أول من بدأ طريقى تلك التجارة البرى عبر إفريقيا، ثم البحرى أيام البطالسة عبر البحر الأحمر. وكانت تلك التوابل وما يحفل به مطبخ كليوباترا من أطباق شهية متميزة المذاق حلوة الرائحة هى التى أوقعت أنطونيو فى غرامها. حيث يرى شكسبير فى مسرحيته عنهما، والتى يدعوها فيها أنطونيو دوما ب«يا مصر»، أنها أوقعته فى غرامها بتحضرها وتفوقها الثقافى عليه وعلى روما برمتها، وقد ترك وراءه فيها أوكتافيا شقيقة القيصر، أكثر مما أوقعته بجمالها الأنثوى الذى كانت روما مترعة به.
لأننا نعرف من المصادر التاريخية أن أوروبا لم تحصل على أى من التوابل إلا بعد معرفة الشرق العربى لها بقرون. حيث كان أول من حصل عليها من التجار العرب هم الإغريق القدماء، ثم الرومان من بعدهم. ومن الروايات المشهورة فى هذا المجال أن الفيزيجوثيين، وهم من صناديد شمال أوروبا الأقوياء، حينما غزوا روما فى القرن الرابع قبل الميلاد 378 كانت الفدية التى طلبوها من الرومان وقتها هى ثلاثة أطنان من الفلفل الأسود. وأن جوزة الطيب فى سالف الأزمان كانت تقدر قيمتها بوزنها من الذهب. فقد كان أحد أسباب ارتفاع أسعارها هى ندرتها، أو قلة المكتشف منها. وأن ندرتها السبب فى ارتفاع ثمنها ذاك وفى أن قشرتها، التى لا يعرفها العرب، ولا يستخدمونها، أصبح لها قيمتها الخاصة، بل اسمها المتميز عند الأوروبيين حتى هذا اليوم كأحد التوابل.
وفى النصف الأول من الألف السابقة للميلاد سيطر العرب كلية على تجارة التوابل العالمية عن طريق البر، وكانوا هم مصدر معرفة الإغريق القدماء والرومان من بعدهم بها. وكان الأنباط هم الذين سيطروا على تجارتها من البتراء إلى غزة ثم السويس والبحر الأحمر أو إلى الجزيرة العربية، فى رحلتى الشتاء والصيف الشهيرتين، اللتين خاض من أجلهما تجار مكة وقبائلها الثرية حربهم ضد الإسلام وقد تصوروا أنه سيؤثر على مكاسبهم من تجارتها. وقد استمر العرب فى السيطرة على تلك التجارة قبل الإسلام وبعده. إذ كان يمتد طريق تجارتها من البلدان العربية برا عبر عُمان وعدن وجنوب اليمن، ثم عبر باب المندب إلى بحر العرب. وكان ثمة طريق آخر يتحكم فيه أنباط البتراء ويمر بمصر عبر البحر الأحمر وصولا إلى مملكة إكسيوم، والتى كانت تقوم فى المنطقة الواقعة الآن بين إريتريا وشمال الحبشة. ثم يعبر بعدها إلى زنزبار، أو يتجه شرقا فى المحيط إلى الهند وسرنديب وصولا إلى جاوا وسومطرة وغيرها من الجزر الإندونيسية. وكانت تلك التجارة تهتم أيضا بالبخور والعطور الطبيعية من المسك والعنبر قدر اهتمامها بالتوابل من القرفة والقرنفل والزنجبيل والحبهان، حب الهال، والكركم والفلفل وجوزة الطيب.
وقد لعب العرب تاريخيا دورا أساسيا فى هذه التجارة منذ ما قبل الإسلام بقرون طويلة، وقد رأينا كيف أن مسلمى جزيرة سيريلانكا أو عربها كما يسمونهم فيها، يرجعون بأصولهم إلى ما قبل الإسلام بقرون، حيث كان للجزيرة موقع حيوى على طريق تجارة التوابل تلك. ثم تعاظم هذا الدور بعده واستمر متناميا حتى صعود المد الأوروبى، خصوصًا فى القرن الرابع عشر، حينما أصبحت البندقية أهم الموانى الأوروبية لتجارة التوابل، وأكثرها غنى ورخاء. وكان ازدهار تجارة التوابل من عوامل ازدهار الخلافة العباسية فى بغداد، حيث بدأ بعدها طريق بحرى آخر عبر البصرة والخليج العربى والبحرين إلى سرنديب والهند. كان هذا فى اعتقادى هو زمن ما يمكن أن نطلق عليه عصر الكشوف الجغرافية العربية، حينما سيطر أسلاف بحارة اليمن وعُمان على الطريق البحرى عبر المحيط الهندى. وكان هذا الطريق البحرى العربى هو الطريق الذى امتد عبره الإسلام بعد ذلك إلى تلك المناطق النائية فى جنوب شرق آسيا كسرنديب نفسها وشبه جزيرة الملايو (المعروفة الآن بماليزيا وسنغافورة) وإندونيسيا، والتى لم يفتحها العرب بالحروب كما هو الحال مع مصر وفارس وإفريقيا، وإنما بالتجارة وعبر طريق التوابل ذاك.
وكان لتجارة التوابل طريقان: أولهما برى تقوم به قوافل الجمال وهى تشق الصحارى والوديان، وهو ما تشير إليه رحلتا الشتاء والصيف، والآخر بحرى تخوض فيه السفن عباب البحار والمحيطات. وما كثير من رحلات سندباد البحرى فى «ألف ليلة وليلة»، وقرينه سندباد البرى، إلا استلهام لهذين الطريقين الأساسيين لتجارة التوابل التى امتدت لآلاف السنين، واتخذت من الخليج العربى مدخلا لها إلى عوالم تلك التوابل المنتشرة فى بلدان آسيا وبيئتها الاستوائية. فما رحلات السندبادين فى حقيقة الأمر إلا رحلات لتجارة التوابل مع آسيا، وجلب القرفة وجوزة الطيب والقرنفل وغيرها من التوابل التى كان يجلبها السندباد فى سفنه إلى بغداد من الجزر النائية التى يبحر إليها، ولا يستطيع شراؤها إلا علية القوم والموسرين. أو العاج والأبنوس وخشب الصندل والعنبر التى كان يجىء بها منها ومن إفريقيا على السواء. فرحلات السندبادين ليست من اختراع شهرزاد، ولكن مخيلتها الخصبة التى تستمد إلهامها من الواقع هى التى وضعت طريق التوابل ذاك على خرائط المخيلة العربية كعالم تتجاوز أحداثه وما يعانيه تجاره وبحارته من أهوال حينما نبحث عنها فى المصادر التاريخية خيالات شهرزاد.
وقد استمرت تجارة التوابل تلك فى أيدى العرب عملا تجاريا حضاريا خالصا لقرون عديدة. تجارة أكثر ما يمكن قوله عنها إنها تجارة فى الكماليات والرفاهية، تجلب أشياء نادرة وجميلة، لأنها كلها ليست من ضرورات الحياة التى يدرأ بها الإنسان عن نفسه الموت أو عوادى الطبيعة، ولكنها جميعها من تلك الأشياء الصغيرة التى تجعل الحياة ألذ مذاقا، من القرفة وحب الهال وجوزة الطيب، وأطيب رائحة من المسك والكافور والعنبر. فلم تكن التوابل فى هذا الزمن البعيد قد أصبحت، كما هى الآن، شيئا أساسيا بسيطا فى كل بيت، ولم تكن القرفة وجوزة الطيب قد فقدتا مكانتهما المتميزة القديمة، بصورة لا يستطيع أحد أن يتصور معها الآن أنها كانت رديفة الأحجار الكريمة والمجوهرات، وأن التجارة فيها كانت مجلبة للثروات، وأن حروبا كثيرة وطويلة قامت من أجلها، لكن ما إن دخلت أوروبا إلى ساحة المنافسة عليها، خصوصا بعد انهيار الدولة العربية فى الأندلس، وبداية كشوفها الجغرافية، حتى دخل طريق التوابل عصرا جديدا من الصراعات والحروب الضارية التى امتد بعضها لعشرات السنين، ما جلب على العالم الكثير من المآسى التى نعرفها فى تواريخ الاستعمار الأوروبى الطويلة، ونهبه لثروات قارتى آسيا وإفريقيا، لكن لهذا حديثًا آخر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.