عجيب أمر هذه البلد تشد أهلها إليها برباط وثيق، فمهما شرّق المصري أو غرّب تجد لديه حنينا عجيبا لوطنه، يتابع أخباره، يسأل عن حال أهله، يتفاعل مع أحداثه: تؤرقه أزماته ويحزنه ما يغشاه به من خطوب. ربما لأن المصريون هم أكثر شعوب الأرض التصاقا بالوطن، فهم شعب غير مهاجر بالفطرة، حتى لو سافر عشرات السنين يحيا على أمل العودة والترتيب لها، فتجده يرتب أموره على أنه غير مستقر وأنها غربة مؤقته وإن طالت، وكل عام يمر عليه بألف عام. حب عميق وحنين جارف يعيشه المصريون في الخارج. عجيب أمر هذه البلد، مهما قست على أهلها يظل الحنين إليها يمزقهم، لا يرجون عنها بديلا ولا يبغون عنها حولا، أمر مكنون في سويداء قلوب المصريين يقدسون به وطنهم ويحنون إليه حنين الطيور إلى أكنانها. ولقد أسقط نظام مبارك البائد المصريين في الخارج - على كثرتهم- من حساباته، وتحولوا فقط إلى رقم في الموازنة العامة للدولة (فتحويلات المصريين في الخارج تمثل ثلث رقم موارد الدولة المصرية) ومع ذلك كانت تتم عمليات ابتزاز واسعة على المصريين في الخارج دون أدنى اهتمام بمشاكلهم، أو السعي في حلها. وتحولت علاقة المصريين في الخارج مع الوطن إلى رقم في ميزانية الدولة دون أدنى ارتباط سياسي أو اجتماعي، فلا يشاركون في الانتخابات ولا رأي لهم فيما يجري في بلدهم، وتحولت السفارات والقنصليات التي من المفترض أنها تحمي مصالح المواطنين في الخارج إلى ممثليات لأمن النظام حتى غدت السفارات مراتع لجهاز أمن الدولة المنحل وكل الأجهزة الأمنية التي تزخر بها الدولة البوليسية، وتحول المصريون العائدون إلى فرائس سهلة لتلك الأجهزة الفاجرة التي ما حمت أمن الدولة المصرية يوما؛ إنما كانت مسخّرة لأمن الحاكم وعائلته وزبانيته. ولقد أكرم الله المصريين بثورة بيضاء نقية لم ترق فيها دماء، ولا دماء الحاكم الظالم (حتى الآن) ولا بد أن تنعكس هذه الثورة على المصريين في الخارج وقضاياهم وما أكثرها، فلابد أن يشارك المصريون في الخارج في الانتخابات، فهم كتلة تصويتية لا يستهان بها ولها أن تساهم في تشكيل مستقبل البلد، ويجب أن يكون لها إسهام مقدر في أي مشروع للنهضة. ولابد أن تتحول السفارات والقنصليات إلى جهات وطنية تحمي مصالح المصريين وتحفظ حقوقهم وتدافع عنهم، فهذه هي وظيفتها الأساسية والطواقم العاملة في وزارة الخارجية كلها إنما تتلقى رواتبها مما يدفعه هذا المصري المغترب من ضرائب. وعار على ثورة مصر أن تظل السفارات والقنصليات في الخارج مفتوحة بطواقم من كان خدما في أجهزة أمن النظام السابق، لعل هذا ما لمسه رئيس الوزراء الدكتور عصام شرف في زيارته الأخيرة للكويت عندما ضج المصريون من سفارتهم هناك وقالوا له إنها لا زالت تعمل بعقلية النظام السابق. ولا بد أن تنتهج الدولة سياسة جديدة مع المغتربين فلا تعاقبهم مرتين: مرة بالغربة ومرة بعمليات النهب المنظم لمواردهم وما اقتطعوه من عرق السنين. مصر الجديدة المقبلة لا يجب أن تتبع نفس سياسات نظام مبارك البائد الذي كفّر المصريين بوطنهم وجعل عقوبتهم مضاعفة، حتى كانت الغربة على قسوتها ومرارتها أقل ألما من اغتراب حقيقي في الوطن، عندما يعيش الفرد مسلوب الحقوق، مهان الكرامة، مضيع الآدمية. عجيب أمر هذه البلد فطرت قلوب أهله على الشوق إليه، حنينا غريزيا يعد المسافر أيامه بالساعات، لابد من العود وإن طال السفر، يحسب متى يرجع، وما أحلى الرجوع إليها.