يؤثر المجتمع في السياسة في الدول الديقراطية بأكثر مما تؤثر السياسة في المجتمع, فأغلبية معتبرة ترى حاكما أو حزبا ما عاكسا لأفكارهم أو خياراتهم أكثر من غيره فيختارونه, ويرتضى بقية المجتمع خيار هذه الأغلبية المعتبرة .. أما في الدول غير الديمقراطية فإن السياسة تؤثر في المجتمع بأكثر مما يؤثر المجتمع في السياسة.. وما يحدث (فوق) يرشح على (الأسفل).. مُبارك وفتاة العتبة
شاركت مصر في سنة 1991(أثناء حكم مبارك) في الحرب على العراق وكُسرت قيمة كبرى من قيم القومية والعروبة والإخاء .. لكن من ناحية أخرى تحققت لمصر نتيجة لمشاركتها مصالح اقتصادية كبيرة, منها اسقاط المليارات من الديون ..كانت الفكرة باختصار يعكسها المثل الشهير : (أنا ومن بعدي الطوفان), وهو ما تم ترجمته في شعار (مصر أولا) .. هذا المعنى نزل من فوق لتحت ..فتأثر به المجتمع, فبعدها بشهور قليلة في أوائل 1992 حدثت حادثة هزت وجدان المصريين وكانت قضية رأي عام, واشتهرت بأسم (فتاة العتبة) حين تم اغتصاب فتاة في الميدان الشهير من أربعة وحوش على مرأى ومسمع من الناس في الميدان الذي لا يخلو من الناس في أي وقت من ليل أو نهار ..
ماذا حدث للمصريين ؟
في سنة 1995 كتب المفكر د. جلال أمين كتابه الشهير : "ماذا حدث للمصريين" - تطور المجتمع المصري في نصف قرن 1945 - 1995( وبالمناسبة هو استاذ اقتصاد أصلا ) حيث قدم في هذا الكتاب (كما جاء في الموسوعة الحرة) تصويرا بارعا لما آل إليه المجتمع في نهاية القرن العشرين، في الاقتصاد والسياسة والثقافة والإعلام، وفي العلاقات الاجتماعية، بما في ذلك العلاقة بين الطبقات، وبين الناس والحكومة, ورصد فيه بطريقته السهلة العميقة كثيرا مما حدث من تغيرات في حياة المصريين وذلك بأسلوب ساخر جذاب.
السياسة والمجتمع
كتب الأستاذ محمد حسين هيكل (ليس الصحفي محمد حسنين هيكل) مقالا في مجلة الهلال في مارس 1936 بعنوان : أثر السياسة في أخلاق المجتمع : السياسة تنهض بأخلاق الأمم القوية – كتب فيه : "لعل من ألغاز الحياة ما بين سياسة أمة من الأمم وأخلاقها من تفاعُل؛ فهل هي السياسة التي تؤثر في أخلاق الأمة؟ أو أن أخلاق الأمة هي التي توجه سياستها؟ وعندنا أن الأمرين متلازمان تمام التلازم، وأن نظام الحكم في أمة من الأمم، والطريقة التي ينفذ بها هذا النظام ليس إلا ظاهرة من ظاهرات حياة الأمة النفسية، وبالتالي من ظاهرات أخلاقها، ومع ذلك فلطريقة الحكم في الأمم أثر في أخلاق الجيل الذي يخضع لهذه الطريقة، وفي الأجيال التي تتأثر به بطبيعة الحال .
هذا التلازم بين السياسة وخلق المجتمع يجعل للسياسة في الأمم القوية الخُلق أثرًا يزيد خلقها قوة، وفي الأمم الضعيفة الخُلق أثرًا يساير هذا الضعف حتى يغير الله ما بهذه الأمة من ضعف حين تغير ما بنفسها، وعلة ذلك بسيطة واضحة، فإن الأمم القوية الخلق هي التي يحكم فيها الرأي العام على الحاكم والمحكوم جميعًا، فيها تُعتَبر الحكومة وكيلةً عن الشعب مأجورة على وكالتها، فإذا هي حادت عن حدود الوكالة حاسبها الشعب على ذلك حسابًا عسيرًا بالثورة عليها وبإسقاطها، والحكومة في مثل هذه الشعوب تعتبر الثورة حقًّا من حقوق الشعب، فهي تتفاداها بالنظم الديمقراطية".
في زمن مبارك
كانت مشاركة مصر في ضرب العراق وحصار غزة وليبيا (القذافي), وكذك السودان ما رسخ فكرة (مصر أولا) وايضا ( أنا ومن بعدي الطوفان), لقد انتقل ذلك من اعلى لأدنى, فوجدنا اختلالا كبيرا في قيم انسانية كثيرة منها النجدة والغوث والشهامة والمروءة والنخوة , فزادت معه حالات التحرش في الميادين والأعياد أمام أعين آخرين, وازداد تكرار عبارة (وأنا مالي – واحنا مالنا) على لسان كثير من الناس, وصاحب ذلك أيضا فسادا ماليا على حساب الفقراء, ووصلت الأنانية الى حد بشع مخيف فكان الاحتكار في السلع , ولم يجد بعضهم حرجا في استيراد أسمدة مسرطنة أو مستلزمات طبية فاسدة أواكياس دم فاسد رسعيا للثراء دون أن يكترث بأي احد غيره .. على المستوى الأقل , في الطرق ,وكذلك في العمارات السكنية, حيث لا تخلو عمارة من خلافات بين قاطنيها في استعمال الأجزاء المشتركة والمصعد والمشاركة في تحمل تكاليف الصيانة, وتتفاجئ حين تقارن بين نظافة شقة أحد السكان وحسن ترتيبها وبشاعة المنور والسطح , وهو ما وصفه أحد الاصدقاء بعبارة موجزة مُعبرة (جمهورية شقتي) !!
تجارب أخرى قسّم سور برلين الشعب الالماني الى شعبين ( بل وبلدين) بسبب الايدلوجيا, وعاد الأمر الى طبيعته مع هدم سور برلين ليتحول الشعبان والبلدان الى شعب واحد وبلد واحد ..وفي بريطانيا تصاعد الخلاف الى حد الاقتتال داخل الوطن الواحد بسبب الخلاف المذهبي (كاثوليك – بروتسانت) الى أن تم توقيع الأطراف المتصارعة على (اتفاق بلفاست (والمعروف باسم "اتفاق الجمعة العظيمة" ليُنهي صراعا دمويا طويلا .. وفي منطقتنا عاشت لبنان زمنا في ظل خلاف داخلي تحول الى اقتتال دموي لعدة سنوات انتهى وفقا لاتفاق الطائف ليتحول الصراع من الميادين الى طاولات السياسة ..
الشروخ الإجتماعية الحالية
كما يتفق مؤيدو المسار الحالي ومعارضوه على فساد وسوء حقبة مبارك , فلا أظن أنه يغيب عن المتابع مُنصف أثر السياسة في حالة المجتمع المصري حاليا , ومدى الشروخ الإجتماعية الحادة التي وصلت الى الشقاق بين ابناء الاسرة الواحدة, ووردت بعض التصريحات التي تقول : "أننا في حالة حرب" دون النظر الى ان العلاقة بين مكونات ابناء الوطن يجب أن تكون تحت شعار "لا غالب ولا مغلوب". تتغير الانظمة, ويبقى الناس, وكما يتوارث أهل الصعيد الثارات, سيتوارث الناس الكراهية أو المحبة, لذلك نحن بحاجة شديدة جدا لرأب الصدع وعلاج الشروخ والتخلي عن العناد تداركا لأخطار لا تصغر ابدا مع الوقت بل تكبر وتزيد...فهل من فرج قريب ؟
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.