هناك أسطورة قديمة عن أخوين كانا يتشاركان فى العيش ويمتلكان قطعة أرض وبقرة، ثم إن أحدهما افتعل خلافاً مع أخيه، ولجأ إلى جار متواطئ للفصل فى الخلاف. حكم الجار بأن يحصل الأخ الأول الذى لم يتقدم بالشكوى ولم يفتعل الخلاف على نصف الأرض المزروع برسيماً، بينما يحصل الشاكى على النصف المزروع قمحا، وبأن تكون ملكية البقرة من رأسها حتى منتصف بطنها للأول، ومن منتصف بطنها حتى الذيل للآخر، وهكذا أخذ الأخ الأول يزرع البرسيم ويطعم البقرة بحجة أن رأسها وفيه فمها يقع فى حصته بينما أخوه المتآمر يستمتع بحليب البقرة لأن ضرعها ضمن حصته وبالقمح الذى يزرعه فى أرضه كذلك، ولم ينس المتآمر أن يلقى بعض حبات القمح وقطرات الحليب إلى الجار قليل الذمة الذى حكم بتقسيم الأرض والبقرة على هذا النحو الظالم. بمرور الأيام ازداد زارع البرسيم فقرا، وتكدست الأموال لدى أخيه، الذى تنكر للأخوة منذ البداية، أما الجار المتواطئ فأصبح حارساً يعمل عند الأخ الغنى الذى استدار ذات يوم إلى أخيه الفقير قائلاً: بأى حق تقاسمنى أرضى؟ وبعد أن توسل الفقير إليه وافق على أن يتركه مقيما فى الأرض بشرط أن يقوم بزراعة القمح والبرسيم معا باعتباره مجرد أجير يعمل لدى أخيه الغنى، وأن يحلب البقرة كل صباح ومساء ويحمل حليبها إلى الأخ الغنى، ولم يجد الفقير أمامه إلا أن يوافق! الأسطورة ليست مجرد قصة خرافية، لكنها تفسر نشوء الطبقية بين البشر الذين ظهروا على الأرض منذ الأزل حفاة عراة، يملك كل منهم أن يحلم بما يمتد إليه بصره، وأن يملك ما تطاله يده، وتنبهنا الأسطورة إلى أن "اختلاف القدرات" لم يكن هو الأساس فى التمايز، فكلا الأخوين كان يعرف الزراعة ويمكنه أن يرعى البقرة، لكن "التضليل" كان هو السلاح الأساسى الذى استخدمه المستغلون ضد الفقراء. التضليل الذى اتخذ أشكالاً مختلفة وامتد عبر الأزمنة، وكانت بداية الحيلة أن "تطرف" فريق ضد فريق، فالأخ المستغل حسب الأسطورة انتقل من حالة الأخوة إلى أقصى الطرف الآخر، مرتكبا جرائم التحايل والاستغلال وأخيراً الاستعباد ضد أخيه الذى لا يمكن أن نسمى إصراره على التمسك ب"الاعتدال" والاحتفاظ بالثقة فى أخيه إلا ب"السذاجة"، ولو كان الفقير تسلح بالوعى منذ البداية لما حدث ما حدث، لو كان رفض التقسيم الهزلى معالنا الجار بأنه "متواطئ" و"عديم الأخلاق" ورفض أن يكون هناك طرف ثالث طفيلى فى المفاوضات بينه وبين أخيه لما وصل إلى "الدرك الأسفل" من الفقر، ولو لم تلهه "بلاهة الثقة العمياء" عن مؤامرة أخيه لكان واجه الأخ المستغل مصراً على تقسيم عادل للموارد والأعباء، ولما وافق هذه الموافقة "العبيطة" على التقسيم الهزلى الذى جرى بينهما، لمجرد أنه استوفى شكل الحكم. كان على الأخ الفقير أن يواجه تطرف أخيه المتآمر بأن يتطرف فى التمسك بحقه، فالقضايا الأساسية لا تقبل القسمة على اثنين، والتطرف ليس شرا فى كل الأحوال، فالمرء مثلاً لا يمكن أن يكون "معتدلاً" مع من يريد أن يسلبه شرفه أو حياته.فهناك أمور كثيرة لا تقبل سياسة "النص نص"، وهى بالصدفة الأمور الأساسية، والمواقف التى يرتهن بها مستقبل الإنسان ومصير الأمم. [email protected]