ما زال الجدل محتدما على الساحة الإعلامية حول مستقبل مصر السياسي ، وكأنه ليس كافيا أن نعلم أن هذا المستقبل محكوم بقواعد دستورية صوّت عليها الشعب فى استفتاء عام بأغلبية 77%، وأنه سيتقرّر وفق عملية ديمقراطية حقيقية عبر صناديق انتخابات حرة، يمارس فيها الشعب حقه فى اختيار نوابه وحكّامه بلا قيود ولا تدخل من السلطة وبلا تزوير ، وتحت إشراف قضائى كامل للعملية الانتخابية من ألفها إلى يائها.. ولكننا مع ذلك نشاهده فى الآونة الأخيرة خلال وسائل الإعلام عملية استنفار عجيب تقوم به فئات معينة أدركت أن مستقبلها فى العملية الديمقراطية ليس مضمونا كما كانت تحلم.. وأن خطر تهميشها أو انكماشها قد أصبح وشيكا.. وأن فرصتها التى تمتلكها الآن قد تضيع ما لم تفعل شيئا يقلب المعادلات الجديدة التى أفررزتها الثورة .. وقد كانت نتيجة الاستفتاء على التعديلات الدستورية بمثابة النفير الذى أيقظهم من غفلتهم.. ومن هنالك انطلقت حملاتهم الإعلامية ونشاطهم المحموم.. هذا كلام عام يلخص الموقف.. قد يفهم دلالاته بعض خاصة القراء ولكنه يحتاج إلى شيء من التفصيل اللازم .. وأبدأ بهذا السؤال: ما هى تلك الفئات المعينة التى تثير كل هذا الضجيج الإعلامى..؟ من أبرزهم النخبة المثقفة من العلمانيين الذين ترعرعوا فى ظل النظام البائد وأصبحت وجوههم وأصواتهم قدرا مقدورا على الناس أن يشهدوه صباح مساء طوال عقود الإستبداد.. كانوا متمدّدين على الساحة الإعلامية متفرّدين بها.. وأصبحوا اليوم يخشون الانكماش والإزاحة أمام زحف عناصر فكرية وثورية جديدة .. وفرصتهم الراهنة التى يتشبّثون بها أنهم لا يزالون كما كانوا فى السابق يحتكرون المنابر والكلام فى الصحف والبرامج المتلفزة ويُستدْعون دون سواهم إلى الندوات والمؤتمرات واللقاءات المتلفزة.. ليروّجوا لفكرة أساسية هى "العلمانية ضد التوجهات الإسلامية.." أضيف إلى هؤلاء فئة السياسيين الذين فشلوا فى أحزابهم الكرتونية، والذين فشلوا فى تشكيل أحزاب معارضة فى الماضى ..أو فشلوا حتى فى ممارسة خط سياسي مستقل عن الأحزاب، ونرى عددا لا بأس به منهم يحتضنه نائب رئيس الوزراء الحالى فى مجلس بطرس غالى للحقوق.. وفى مؤسسات أخرى.. ومن ثم نفهم أنهم يعملون تحت مظلة شخصية فى داخل السلطة الحاكمة .. لا زلت أعتقد أن صاحبها لا يمثّل توجهاتها الحقيقية .. وما زلت أراه عبئا عليها وتشويشا على منجزاتها.. كما أرى أن استمراره فى السلطة يُغذّى جرأة الناقدين لها.. حتى أصبحت تتحسّب لانتقاداتهم اللاذعة.. وتخشى من اتهاماتهم .. وقد بلغ من حرص السلطة العليا على التنصل من هذه الاتهامات أن تورط أحد أعضائها فى الإساءة إلى أكبر فصيل إسلامي على الساحة ومن أكثرالقوى السياسية والاجتماعية إخلاصا للثورة وللوطن.. بعبارة: "ليس بيننا [إخوانجية]...!" وهى عبارة تذكّرنى بتصريحات المشير عبد الحكيم عامر عندما كان يقول: أنه لا يسمح فى جيشه بالانحراف.. ثم يحدد المعنى بعبارته المشهورة: " الانحراف هو الشيوعيون والإخوانجية" .. عرفنا إذن من هم الذين يتقافزون اليوم فى الساحة ويتداعوْن لوضع حد للقوى والتيارات الإسلامية التى برزت تأثيراتها الجماهيرية خلال الثورة وما بعدها.. فهم يرون فى هذه القوى الصاعدة فى المجتمع خطرا على وجودهم وتمدّدهم غير الشرعى، ولم يتوقّفوا لحظة ليتفحّصوا حقيقة هذا التمدّد الذى لا يتناسب مع حجمهم وواقعهم فى ميزان الفكر والسياسة والمجتمع... فهم الأقلية .. وهم لا يمثلون هويّة هذا الشعب ولا يأبهون بذلك، ولا يعبّرون عن نبض الأمة وتتطلّعاتها الحقيقية.. فى أسبوع واحد نسمع عن مؤتمرات وندوات واجتماعات عديدة يعقدونها لترويج أفكارهم وبث هواجسهم وتخويف الناس من الخطر القادم للحركات الإسلامية.. رافعين فزاّعة الدولة الدينية .. والعجيب أن حكاية "الدولة الدينية" مجرّد وهم فى عقل رجل لم يصادفه التوفيق أبدا فى أى حديث أدلى به فى طلعاته المتلفزة، ولعل لله فى ذلك حكمة فكلامه المستفز يمحو مصداقيته عند الناس.. ففى حديث له مع الدكتور عمار على حسن يقول فى سياق تحذيره من الدولة الدينية: "إنك إذا حاورتهم [يقصد السلفيين] يقولون لك (يقول الله)... مع أن الله لم يقل شيئا من 1400سنة"...! تصريحات عجب لرجل جريء لا يتحدث بالاحترام الواجب ولا يتعلم من أخطائه.. أقول: نعم لقد اختتم القرآن كل الرسالات برسالة محمد ونبوّته الخاتمة.. وانتهى التنزيل بهذا المعنى.. ولم يعد فى مقدور أحد من البشر أن يزعم بغير ذلك.. إلا أن يكون سفيها أو كذّابا أو مخادعا.. ولكن لو كان صاحبنا على شيء من الفقه القرآني لما أطلق هذه العبارة الجاهلة.. فسيبقى القرآن معنا دائما نستهديه ونحتكم إليه فى كل واقعة وفى كل حادثة.. إلى يوم القيامة.. ومن ناحية أخرى لو أخذ كلام الله بمعناه الواسع لعلم أن كلمات الله لا تنفذ ولا تنقضى.. لأن مخلوقات الله هى كلماته.. وعملية الخلق المتدفّقة أبدا لا تنقطع ولا تتوقف لحظة من لحظات الليل أو النهار، يشهدها الكون فى أكبر المخلوقات حجما: من المجرات والمجموعات الشمسية والنجوم والأقمار، كما يشهدها الكون فى أصغر كائناته وأدقها: فى قلب الذرة وفى قلب الخليّة الحية.. لايفتأ الرجل يكرر فى كل مناسبةعبارته الشهيرة: "أنا ضد الدولة الدينية" فهو يحذر منها ويستنفر الأحزاب والعلمانيين واللبراليين أن يتكاتفوا لمحاربتها وهزيمتها.. هذا الموقف الفلكلورى يستدعى إلى الذاكرة صورة "دون كيشوت" بطل رواية الأديب الأسباني الشهير سرْفانتس.. وكان دون كيشوت رجلا من الريف افسدت ذهنه روايات الفروسية التي كان يقرؤها فقرر ان يمتطي صهوة جواده.. يصحبه فلاح آخراسمه سانكوبانزا كخادم له.. ثم يخرجان بحثاً عن اعمال البطولة والمخاطرات .. وكانت أول المعارك التى خاضها الدّون كيشوت ضد طواحين الهواء.. اذ توهم انها شياطين ذات أذرع هائلة، اعتقد انها مصدر الشر في الدنيا، فهاجمها بضراوة.. وهكذا تمضى رواية سرفانتس ساخرة، ترسم صورا كاريكاتيرية للفروسية المزعومة والبطولات الوهمية.. ولكن رغم اتفاقهما على النضال كان سَانْكوبانزا على النقيض من سيده الغارق فى أحلام النبالة.. حيث نراه يشترط عليه أن يقتطع له من الأراضي المحررة من قبضة اللصوص الغاصبين جزيرة ً يجعله أميراً عليها، حتى وإن كان لهذه الأرض أصحاب شرعيون، فهو يقاتل من أجل الكسب والمنفعة، ويريد أجراً على كل خطوة نحو الواجب، ولا يقيمُ وزناً للقيم الإنسانية النبيلة. فالنية الطيبة عند سانكو لا قيمة لها إن لم ترتبط بالمصلحة الذاتية...! لقد أشرت فى مقالى السابق "أن حكاية الدولة الدينية ليست قضية مطروحة.. فلا أحد يدعو إليها ولا هى ممكنة ولا مبرّرة فى أي إطار إسلامي.. فقد كانت الدولة مدنية منذ عهد الخليفة الأول أبى بكر الصديق، ولم تكن دولة دينية" فما معنى هذا.. ؟ معناه بكل بساطة أن الرجل يستنفر قبيلته ليحارب عدوا وهميا لا وجود له إلا فى خياله.. فلماذا قلت أنها غير ممكنة فى أي إطار إسلامي مزعوم..؟! دعنا نستعرض ما يقوله عالم العلماء الدكتور يوسف القرضاوي.. إنه يقول فى لقاء متلفز على الجزيرة الفضائية: "الدولة الإسلامية كما جاء بها الإسلام، وكما عرفها تاريخ المسلمين دولة مَدَنِيَّة، تقوم السلطة فيها على البَيْعة والاختيار والشورى.. والحاكم فيها وكيل عن الأمة أو أجير لها، ومن حق الأمة، مُمثَّلة في أهل الحلِّ والعَقْد فيها، أن تُحاسبه وتُراقبه، وتأمره وتنهاه، وتُقَوِّمه إن أعوجَّ، وإلا عزلته، ومن حق كل مسلم، بل كل مواطن، أن ينكر على رئيس الدولة نفسه إذا رآه اقترف منكرًا، أو ضيَّع معروفًا، بل على الشعب أن يُعلن الثورة عليه إذا رأي كفرًا بَوَاحًا عنده من الله برهان." ينتقل الشيخ إلى تعريف الدولة الدينية ويرجعها إلى أصلها وإسمها الذى اشتهرت به فى التاريخ فيقول: " أما الدولة الدينية "الثيوقراطية" التي عرفها الغرب في العصور الوسطى والتي يحكمها رجال الدين، الذين يتحكَّمون في رِقاب الناس وضمائرهم أيضًا باسم "الحق الإلهي" فما حلُّوه في الأرض فهو محلول في السماء، وما ربطوه في الأرض فهو مربوط في السماء...! فهي مرفوضة في الإسلام، وليس في الإسلام رجال دين بالمعنى الكهنوتي، إنما فيه علماء دين، يستطيع كل إنسان أن يكون واحدا منهم بالتعلُّم والدراسة، وليس لهم سلطان على ضمائر الناس، ودخائل قلوبهم، وهم لا يزيدون عن غيرهم من الناس في الحقوق، بل كثيرًا ما يُهضَمون ويُظلَمون، ومن ثَمَّ نُعلنها صريحة: نعم.. للدولة الإسلامية [المدنية]، ولا ثم لا.. للدولة الدينية "الثيوقراطية". يسأله المذيع: هل تقبل بالديمقراطية..؟ فيجيب الشيخ: "نعم نقبل جدّا ًبالديمقراطية.. أنا أقول دائماً نحن نقبل جوهر الديمقراطية لأنه قد تكون في الديمقراطية أشياء لا تْقبل إسلامياً، كالحرية الشخصية المطلقة.. وحرية الفسوق، نحن نقول حرية الحقوق لا حرية الفسوق.. يعني [هناك] أشياء في الديمقراطية نتحفظ عليها.. إنما جوهر الديمقراطية وروح الديمقراطية، [بمعنى] أن الشعب يقوده مَن يختاره وليس من يُفرض عليه: لا يقوده أناس يكرههم ويلعنهم .. ولا يحب أن يرى وجوههم أو يسمع صوتهم.. جوهر الديمقراطية أن الناس تختار قادتها وحكامها.. تحاسبهم.. وتُسائلهم.. وإذا أخطؤوا تقوّمهم.. ومن حقها أن تستبدل بهم غيرهم .. وهذا هو الإسلام.." تساءل المذيع: عن أهمية المرجعية للنظام السياسي...؟ فأجاب الشيخ الجليل قائلا: "الدول الحديثة في العالم تختلف باختلاف مرجعياتها، يعني الدولة في روسيا حديثة والدولة في أميركا حديثة والدولة في الصين حديثة والدولة في اليابان حديثة، كلها دول حديثة و كلها دول مدنية وتحتكم إلى الشعب وإلى سلطة الشعب.. والشعب هو الذى يختار الحكومة.. ولكن الخلاف بينها: أن هذه مرجعيتها ليبرالية وتلك مرجعيتها اشتراكية أو شيوعية .. كذلك الدولة الإسلامية هي دولة حديثة و دولة مدنية.. تأخذ بكل المدنيات وتُرجع السلطة فيها إلى الأمة.. فالأمة هي التى تختار.. والأمة هي التي تبايع.. والأمة هي التي تنصح.. والأمة هي التي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.. والأمة هي التي تخلع هذا الحاكم إذا شرَدْ.. ومن حق الأمة أن تجعل أحكامها الأساسية في دستور ينظّم العلاقة بين الحكّام والمحكومين..." هذه إذن رؤية أكبر علماء المسلمين وأكثرهم فقها وشهرة وتأثيرا فى العالم.. فمن أين جيئ بأسطورة الدولة الدينية لإلصاقها بالإسلام ورفْعها على الساحة السياسية فزاعة يخيفون بها الناس من الإسلاميين..؟! يريدون عزلهم وإقصائهم من السياسة والمجتمع .. كما فعلوا دائما وبإصرار عجيب على مدى ثلاثين عاما مضت .. وكان يساندهم فى ذلك واحد من أبشع الأنظمة الاستبدادية البوليسية فى العالم، دأب على تغييب الإسلاميين فى السجون والمعتقلات، وتولوا هم حملات التنفير الإعلامي فى مسلسلاتهم وأخبارهم الكاذبة.. من حقنا أن نتشكك فى توجّهات القوم وحماستهم ونتساءل: هل هم فقط يحاربون للدفاع عن مراكزهم ونفوذهم الشخصي الذى يشعرون بتهديده من القوى الإسلامية الصاعدة..؟ أم أنهم يهدفون إلى شييء أبعد من هذا وهو إعاقة العملية الديمقراطية برمتها، والحيلولة دون الشعب وممارسة حقة فى اختيار من يريدهم ممثلين له فى البرلمان ومن يريدهم حُكّاما لدولته..؟! أليس فى هذا عمل يتناقض مع مبادئ الثورة وتوجّهاتها التحررية..؟! ألا يتطابق هذا مع محاولات أعداء الثورة وأعداء الشعب من فلول النظام البائد والحزب الوطنى وفلول جهاز أمن الدولة..؟! ألا يتطابق هذا مع الأحلام الصهيونية والخطط الإسرائيلية الأمريكية للقضاء على الثورة المصرية ومحو آثارها من الوجود.. إذ يستشعرون هم أيضا منها خطرا محققا يزعزع قبضتهم على المنطقة.. ويهدد خططهم لتصفية القضية الفلسطينية...؟!.. أسئلة كثيرة.. لا بد من النظر فيها ومحاولة الإجابة عليها بصدق وإخلاص...! ولكن ليس صدق سانكوبانزا وإخلاصه لسيده دون كيشوت...! . [email protected]