فيما يتشكّك البعض في العالم العربي في حقيقة أن شابّا تونسيا بسيطا مثل بوعزيزي، تمكّن من إطلاق شرارة الصَّحوة العربية، التي امتدّت من المُحيط إلى الخليج ويتصورون أن يَدا خفية اخترَق بها العِملاق الأمريكي جِدار الخوف العربي، لإحياء نظرية الفوضى الخلاّقة في المنطقة وفرض تحوّل ديمقراطي يُمكن بعده إعادة رسم "الشرق الأوسط الجديد".. .. يشكِّل التردّد الأمريكي في مساندة الانتفاضة الشعبية السورية - تذكيرا لمن وقع تحت تأثير نظرية المُؤامرة التي يفسِّر بها الحكام العرب زلزال الصّحوة العربية - بأن الولاياتالمتحدة فوجِئت بهذه الانتفاضات العربية التي لم تكُن بالتأكيد صناعة أمريكية. ويرى الدكتور شبلي تلحمي، أستاذ دراسات السلام والتنمية بجامعة ميريلاند، أن الولاياتالمتحدة وقفت عاجِزة عن التنبُّؤ باحتِمال اندلاع موجة الانتفاضات الشعبية العربية وفوجِئت بشرارتها الأولى في تونس، ثم ارتبَكت في ردِّ فعلها على الثورة الشعبية المصرية، بين تفضيل المصالح القومية الأمريكية التي ارتكزت منذ السبعينيات على تحويل مصر إلى مِحور ارتكاز لتنفيذ مصالحها الأمنية وخِدمة أهداف إسرائيل في ملف السلام، من خلال الاستثمار الأمريكي منذ الثمانينيات في نظام قمعي، مثل نظام حسني مبارك، ثم سُرعان ما أفاقت على حقيقة أنها لا تستطيع هندسة النتائج السياسية لتلك الصحوة وتعلّمت بعد تردّدها في التعامل مع الانتفاضة الشعبية المصرية، أن تتعامل مع كل انتفاضة عربية على حِدة، بحسب اختلاف قوة الدّفع نحو التغيير وواقع كل دولة عربية وما يُمكن أن يتمخَّض عنه الحِراك الشعبي فيها من نتائج بالنسبة للمصالح القومية الأمريكية. ومع أن مارك تونر، المتحدِّث باسم وزارة الخارجية الأمريكية سخر من عجْز الرئيس بشار الأسد عن فهْم ضرورة التحرّك بسُرعة لتنفيذ الإصلاحات السياسية والاقتصادية التي تطالب بها المسيرات الشعبية في أنحاء سوريا منذ 15 مارس الماضي وتركيز خطابه المُنتظر على توجيه الاتهامات لأصابع خارجية تستهدِف استقرار سوريا، ورغم تعهُّد الولاياتالمتحدة بإدانة أي قمْع أو عنف من السلطات السورية للمتظاهرين السِّلميين، فإن واشنطن لم ولن تتحدّث عن ضرورة تغيير النظام أو المطالبة بتنحّي الرئيس السوري، حتى لو استخدم العُنف ضد شعبه. فإدارة الرئيس أوباما لا زالت ترى أنه من الأفضل للمصالح القومية الأمريكية تشجيع النظام السوري على تغيير سُلوكه وانتهاج طريق الإصلاح، لأنها ترى في تغيير النظام قفْزا إلى المجهول الذي يُمكن أن يأتي بما لا تشتهي الولاياتالمتحدة وإسرائيل. وفي لقاء ل swissinfo.ch مع إدوارد جيريجيان، السفير الأمريكي السابق لدى سوريا والمساعد السابق لوزير الخارجية لشؤون الشرق الأدنى، شرح أسباب التعامل الأمريكي المتحفّظ مع الانتفاضة الشعبية السورية: "تخشى الولاياتالمتحدة من خطَر تردّي الوضْع في سوريا إلى حالة من الفوضى، نظرا لأن المجتمع السوري يتألّف من خليط من المسلمين السُنة والشيعة والعلويين، الذين رغم كوْنهم أقلية، استأثروا بمُعظم السلطة والمال، وهناك أيضا الدروز والأكراد وخليط آخر من الأقليات المسيحية المُختلفة ويمكن أن يؤدّي سقوط النظام الحاكم إلى صِراع طائفي، لا يقتصر على سوريا فقط، بل يمكن أن يشيع موجات من الكراهية والعنف الطائفي وعدم التسامح في دول المنطقة بشكل يخلق كابوسا للولايات المتحدة في الشرق الأوسط". ويرى السفير جيريجيان أن الولاياتالمتحدة تفضِّل أن يقود الرئيس الأسد بنفسه عملية تحوّل ديمقراطي، من خلال تنفيذ سريع لوعود الإصلاح التي طرحها في الماضي والاستجابة إلى مطالب الانتفاضة الشعبية، بدلا من ترتيب المظاهرات المسانِدة له واتِّهام جهات خارجية بتحريض الشعب على الثورة والاكتفاء بتغيير الحكومة، عِوضا عن تطبيق إصلاحات تلبِّي مطالب الشعب وقال: "الموقف في سوريا خطير في ضوء الإصرار الشعبي على مواصلة الانتفاضة من أجل تحقيق الإصلاحات المطلوبة. وتنتظر الولاياتالمتحدة لترى هل سيردّ النظام السوري على المظاهرات الحاشِدة بالشروع الفوري في الإصلاح أم سيُواصل استخدام أجهزته الأمنية في القمْع أم سيلجأ إلى شكل من أشكال النموذج الليبي في ردْع الانتفاضة الشعبية باستخدام القوة العارمة للجيش السوري في مواجهة متظاهرين سلميين". أوراق الضغط على الأسد ومع أن الرئيس بشار الأسد، الذي أصرّ في البداية على أن لدى سوريا مَناعة إزاء رياح التغيير التي تجتاح العالم العربي بقوله، أن سوريا ليست مصر وليست تونس، فإنه عاد ليؤكِّد أن التحوّلات في المنطقة العربية سوف تترك تداعِياتها على كل دول المنطقة، بما في ذلك سوريا. ومع ذلك، لوَّح الأسَد بأن الإصلاح يأخذ وقتا ولا يتم بسبب الضغط الشعبي، مما يجعل المناشدة الأمريكية له بالاستجابة لمطالب شعبه تذهب أدراج الرياح، وتجد إدارة أوباما نفسها في حيْرة إزاء ما الذي يُمكن أن تفعله إذا اختار الأسد طريق القمع. سألنا الدكتور روبرت هنتر، السفير الأمريكي السابق لدى حلف شمال الأطلسي عن الخيارات الأمريكية في تلك الحالة فقال: "من الواضح أنه لن يكون بوسْع الولاياتالمتحدة استخدام قوّتها العسكرية ضد النظام السوري، حتى إذا لجأ الأسد إلى القمع الوحشي للمتظاهرين السوريين، كما أنه ليست هناك نداءات دولية بالتصدّي لمثل ذلك القمْع يمكن أن تمهِّد لقرار من مجلس الأمن. وحتى لو توفَّر ذلك الضغط، فلن يمكن مثلا استخدام أسلوب فرْض حظر جوّي على سوريا، لأن قوات الأمن السورية لا تستخدم الطائرات في قمْعها للمتظاهرين، وبالتالي، ستجد إدارة الرئيس أوباما نفسها عاجِزة بشكل متزايد عن ممارسة ضغط فعّال على النظام السوري". ولا يتوقّع السفير هنتر أن يحْذُو الجيش السوري حذْو القوات المسلحة في تونس أو في مصر بالتخلّي عن مساندة النظام والوقوف إلى جانب الانتفاضة الشعبية، كما يرى أن الولاياتالمتحدة لن تطالب بتغيير النظام في سوريا، لأنها تخشى من أن يكون البديل حَربا أهلية أو نظاما أكثر تطرّفا أو أكثر تأييدا لحزب الله وحركة حماس وأكثر اقترابا من إيران. ويخلِّص السفير هنتر إلى أن الولاياتالمتحدة تُدرك أيضا دور سوريا الهام في تقرير توجّه المنطقة نحو الحرب ونحو السلام، ولذلك ترغب في الحفاظ على حالة من الاستقرار في سوريا. فنظام الأسد، رغم سلوكه الذي لا تحبِّذه واشنطن، يبدو أسهَل في التنبُّؤ بما سيقدُم عليه في المنطقة من المجهول الذي يُمكن أن يُسفِر عنه سقوط النظام، وخلق فراغ سياسي في البلاد وما يمكن أن يأتي به المستقبل بالنسبة للاستقرار في المنطقة، خاصة في ظلّ عدم وجود معاهدة سلام بين سوريا وإسرائيل ووضع سوريا الجغرافي، الذي يجعل لها نفوذا في الدول التي تشاركها الحدود، خاصة لبنان والعراق، وكلها أمور تحدّ من قُدرة صنَّاع القرار في الولاياتالمتحدة على انتِهاج النَّمط الذي تمّ استخدامه مع الانتفاضتيْن الشعبيتيْن في تونس ثم في مصر.. المصدر: سويس انفو