جاءت وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كونداليزا رايس عام 2006 بمقولة "الفوضى الخلاقة" لتصف رؤيتها الشاذة القاضية بميلاد الديموقراطية من رحم الدمار الذي أوقعته آلة الحرب الإسرائيلية في لبنان. من تحت الركام تبزغ الحرية، ومن عمق الألم يتشكل "شرق أوسط جديد" ينعم بالمن والسلوى. لكن نظرية "الفوضى" سقطت، وأكد النموذج الأميركي في العراق عبثيتها وبطلانها، وبدت "الديموقراطية" الهجينة والمسخ في ذلك البلد مثالاً على فشل فرض نظام حر ومتوازن وحقيقي من قبل قوة احتلال دموية وغاشمة. بعد خمس سنوات من أفول النظرية الفوضوية اندلعت ثورات شعبية في تونس ومصر وليبيا واليمن، وتحركت شعوب عربية أخرى مطالبة بحقوقها وحرياتها، ووقفت دوائر صنع القرار في الولاياتالمتحدة وأوروبا مصدومة من تتابع الأحداث وزخمها واتساعها، محاولة أن تتكيف مع الواقع الذي لم تستطع أطروحات تقليدية ومسلمات استشراقية فهمه ولا التنبؤ به. هنا ترتفع أصوات أخرى، من داخل العالم العربي هذه المرة، لتسوّق نظرية تشبه نظرية رايس في سذاجتها وتهافتها: ما يجري من ثورات من الخليج إلى المحيط هو "مؤامرة" تجري لإفساد علاقة "الحب" التاريخية بين الشعوب العربية وحكامها؛ هناك أيادٍ خفية تسعى لإشعال النار بين "النخب" والجماهير؛ هناك نية مبيتة لتفكيك العالم العربي، والاستيلاء على ثرواته، وتقسيمه، ووو... بعض الكتاب في الصحافة السعودية، ومشايخ سعوديون أيضاً، بسطوا هذه النظرية في أوج ثورة 25 يناير المصرية، وما زالوا يرددون أن أصابع غربية تغذي "التمرد" على ولاة الأمر، وتسعى لتكدير الجو "الحميمي" الذي يجمع الشعوب والقادة مشيرين بأصابع الاتهام إلى قناة الجزيرة" بوصفها قطب الرحى في هذه المؤامرة "الخبيثة" التي لا تعرف أهدافها بالضبط، لكنها في النهاية تصب في خدمة تفتيت العالم العربي وإضعافه. وهكذا "تتناسل" نظرية المؤامرة الكبرى إلى نظريات صغرى، فهناك وهم كبير لجأ إليه الخائفون المتوجسون من التغيير ليداروا به عجزهم عن "هضم" المشهد واستساغته. لنحاول أن نقرأ المشهد وفق الرؤية التي يروجها هؤلاء. الشاب التونسي محمد البوعزيزي أحرق نفسه مفجراً في الوقت نفسه لهيب ثورة شعبية أطاحت بالرئيس بنعلي، وهو بذلك "رأس الفتنة"، و"كبير المتمردين" الذي علم الشعوب السحر. ولا أدل على سريان روح المكيدة البوعزيزية أكثر من انتشر "موضة" الانتحار حرقاً من الخليج إلى المحيط؛ في القاهرة ونواكشوط وصنعاء وحتى في مدينة جيزانجنوب السعودية. بعد أن آتت ثورة الياسمين أكلها انتفض الشعب المصري... فانتقل العرب بطريقة دراماتيكية إلى الفقرة الثانية من المشهد التآمري، وبثت الجزيرة (الضالعة حتى النخاع في التمرد) صور المصريين وهم يصرخون: "الحقوها..الحقوها..التوانسة ولعوها". تولت فضائيات مشبوهة كبر "الفتنة" كما صرح بعض علماء الدين في السعودية وغيرها، وصبت الزيت على النار، لغرض في نفس يعقوب، ويعقوب بالطبع بريء من الحكاية كلها. أحمد أبو الغيط، وزير الخارجية المصري السابق، وهو رجل متصهين وأتمنى محاكمته، علق على احتمال قيام ثورة في مصر ضد نظام حسني مبارك بقوله: "كلام فارغ" متهماً "فضائيات عربية" بتأجيج المجتمعات العربية وتحطيمها، وهو ما يشي بميول غربية لهذه الفضائيات، بحسب تعبيره. وخرج علينا الرئيس اليمني علي عبد الله صالح ليزعم أن الثورات العربية يديرها البيت الأبيض الأميركي من غرفة عمليات خاصة في تل أبيب، ثم خرج في مناسبة أخرى ليقول إن الاحتجاجات الشعبية العربية ليست سوى "عاصفة تستهدف العالم العربي بما في ذلك بلادنا". وأشار الدكتاتور معمر القذافي إلى الفضائية "الأسطورة" ذاتها؛ التي تقلب الحقائق وتشوه ما يجري في ليبيا، فيما قاطعه أتباعه من حوله هاتفين: "يا جزيرة يا حقيرة، قائدنا ما نبو غيره". هل ما يجري في العالم العربي استجابة لنقرات على "الكي بورد"، أو رسائل تحريض على "الفيسبوك" أو "تويتر"؟ هل هو استجابة "لريموت كنترول" تضغطه أنامل باراك أوباما في المكتب البيضاوي، أو هيلاري كلينتن في مكتبها بوزارة الخارجية في واشنطن؟ هل يندفع الملايين من العرب شباباً وشيباً، رجالاً ونساءً، إلى الشوارع حاملين أرواحهم على أكفهم مدفوعين بجرعات يحقنها الصحافي اللامع بقناة "الجزيرة" فوزي بشرى في أدمغتهم؟ هل أحرق البوعزيزي نفسه في سيدي بوزيد وتبعه كثيرون داخل تونس وخارجها لأن فضائيات تسعى إلى تدمير النسيج الاجتماعي والاستقرار السياسي في الدول العربية؟ هل للولايات المتحدة تأثير لا متناهٍ تشعل به ثورات الشعوب وتخمدها؟ وإذا جاز أن ننسب كل هذه الهبّات والانتفاضات إلى قدرة خارقة ل "أنكل سام" أو "لفضائيات" ذات أجندة خطيرة و"فاتنة" (نسبة إلى الفتنة بمعناها الفوضوي) فماذا بقي من إيمان المسلم الذي يعلم أن الأمر كله لله وأن الله على كل شيء قدير؟ أليس حرياً بهؤلاء اللاهثين خلف وهم المؤامرة أن "يصححوا عقيدتهم" وهم يقولون بلسان الحال أن واشنطن هي "مالك الملك" تعز من تشاء وتذل من تشاء وبيدها صناعة الثورات وتسيير الفضائيات؟ أم أن حديث المؤامرة ليس إلا ظناً، وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً. لماذا لم يلجأ هؤلاء إلى تفسير أكثر بساطة واستساغة وقبولاً: الثورات العربية نتاج طبيعي للقهر؛ ثمرة لعقود من الإذلال وحرمان المواطن العربي من حرياته وحقوقه؟ الثورة رديف للانفجار؛ تعبير عن أشواق جارفة إلى التغيير؛ حنين إلى الكرامة بعد أن فقد الناس كل أمل في الأوضاع الراهنة، وغسلوا أيديهم من زعماء فاسدين صموا آذانهم عن هموم شعوبهم وبنوا دولاً بوليسية تغتال آدمية المواطن وتصادر حقه قي الحياة الكريمة؟ لماذا لم يقل بعض "المعممين" أو المفتين إن الثورات حق مشروع لمن تعرض للسلب والاحتقار والظلم؟ ولماذا لم ينظروا إليها بوصفها تاثيراً عفوياً يسري في أوصال الجماهير، ولا علاقة لفيسبوك ولا للجزيرة ولا لمدام كلينتن به؟ لقد صدعوا رؤوسنا زمناً بنظرية "المؤامرة"، محذرين من نسبة كل أحداث الكون إلى قوى خفية تحركها من وراء ستار، وها هم أولاء ينزلون هذه القوى منزلة من يعلم السر وأخفى من السر، ويدبجون "الأساطير" في مقاربتهم للمشاهد المتسارعة لانفجارات الغضب العربي. لقد جاءت الآنسة كوندي بنظرية "الفوضى الخلاقة"، وجاء طائفة منا ب "الفوضى المدبَّرة بليل"..وتتناسل الثورات والاحتجاجات، ويسهر المنظرون جراها ويختصمون. لكن الشعوب لا تعير النظريات وأصحابها ذرة من اهتمام. إنها تنتفض وحسب. بل هي "تتحدث عن نفسها". * أستاذ الإعلام السياسي بجامعة الملك سعود [email protected]