قبل ثلاث سنوات فاجأ الرئيس جورج بوش العالم كله بطرح شعار «محور الشر»، مقررا أنه لا يجب مطلقا السماح للعراق وإيران وكوريا الشمالية بحيازة أسلحة دمار شامل. العالم في حينها فوجئ بتلك التركيبة - سمك لبن تمر هندي - لكي ينتهي الأمر أميركياً بغزو العراق واحتلاله وأدلة تالية بأن إدارة جورج بوش كانت تعرف من اللحظة الأولى بعدم وجود أسلحة دمار شامل في العراق. الحجة كانت فقط لإعطاء غطاء تبريري دعائي للغزو. وفي النهاية جرى تكريم مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية والقائد العسكري الأميركي الميداني والحاكم المدني الأميركي الذي قام بتفكيك الدولة العراقية. التكريم كان بمنح كل منهم أعلى وسام مدني أميركي. الاحتلال الأميركي للعراق أصبح أمرا واقعا، وهذا كل المهم. كوريا الشمالية انسحبت في 2003 من معاهدة منع الانتشار النووي وأعلنت صراحة حيازتها لأسلحة نووية. لكن لا يهم. إيران أكدت وأثبتت أن كل برنامجها النووي سلمي من البداية وارتضت تفتيشا إضافيا بعد تفتيش من وكالة الطاقة النووية. لكن لا يهم. إيران متهمة أميركيا وليس مقبولا منها حتى أن تثبت العكس. اختفى الحديث الأميركي عن محور الشر. لكن مع ولاية جورج بوش الثانية رفع في خطابه الافتتاحي شعارا جديدا وبديلا هو نشر الديموقراطية في الشرق الأوسط الكبير. أميركا تريد لنفسها هذه المهمة وتعمل بكل همة لحشد أوروبا خلفها هذه المرة. مع ذلك، فحين جرت الانتخابات في إيران أخيراً وسجلت أكبر إقبال شعبي رفضت أميركا نتيجة الانتخابات حتى قبل أن تبدأ. وبعد الانتخابات لم يتقبل الرئيس جورج بوش النتيجة وخرج دونالد رامسفيلد وزير دفاعه ليصف تلك الانتخابات بأنها زائفة مقررا أن الفائز الإيراني فيها محمود أحمدي نجاد ليس صديقا للديموقراطية وسيثبت أنه غير مقبول لدى الشباب والنساء في إيران. نفس المعنى كررته ليز تشيني نائبة مساعد وزيرة الخارجية الأميركية وهى تزور الكويت معتبرة أن الانتخابات الإيرانية الأخيرة «لم تكن حرة ولا نزيهة». ولأن الشيء بالشيء يذكر، دعت تشيني إلى إشراك مراقبين دوليين في الانتخابات البرلمانية المقرر إجراؤها في الكويت سنة 2007 لأن «المراقبين يعطون صدقية للانتخابات». لا أحد في الكويت منذ استقلالها شكك في نزاهة الانتخابات، بما في ذلك المعارضة. لكن المسؤولة الأميركية الزائرة تعرف ما هو أفضل للكويت خصوصا إذا تعلق الأمر بذلك النوع من الديموقراطية الذي تريد الإدارة الأميركية تسويقه. ذروة الحملة التسويقية جاء أخيراً ضمن زيارة كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الأميركية إلى المنطقة واختارت مصر لكي تطرح منها وفيها أفكارها بتوسع. زيارة الوزيرة الأميركية جاءت على خلفية تأجيل زيارة سابقة كانت مقررة في شهر آذار (مارس) الماضي، وتوتر متقطع تصاعدت فيه الاعتراضات على مسائل داخلية مصرية. السلطة المصرية من جانبها تعاملت مع المسألة بتشوش وارتباك وأحيانا بسذاجة من بينها إيفاد أحد كبار موظفيها إلى واشنطن سعيا إلى ترطيب العلاقات عشية زيارة رايس. السلطة المصرية ضاعفت من وتيرة التنازلات التي تقدمها عبر بيع ركائز مهمة في الاقتصاد المصري وقام محافظ البنك المركزي المصري بتبشير المختصين في أميركا وصندوق النقد الدولي بأنه حتى البنوك الأربعة المصرية الكبرى ستوافق مصر على بيعها. بنوك هي بدورها الوعاء الأخير لمدخرات المصريين وأخر حصانة لما تبقى من اقتصادهم. الالتزامات بتلك التنازلات الاقتصادية غير المسبوقة جرى الترحيب بها أميركيا فتتابعت شهادات حسن السير والسلوك من مصادر أميركية مسؤولة وكذلك من صندوق النقد الدولي. لكن التنازلات هنا ليست بديلا عن التنازلات هناك. وعند «هناك» هذه يعود الحديث عن الديموقراطية والإصلاح السياسي. في اليوم العشرين من شهر حزيران (يونيو) جاءت ذروة الحملة التسويقية الأميركية. البرنامج المكثف لوزيرة الخارجية الأميركية في مصر تضمن بعدا رسميا للاجتماع مع الرئيس حسنى مبارك في شرم الشيخ، ثم بعدا علنيا تضمن إلقاء محاضرة بالجامعة الأميركية في القاهرة دعيت إليها نخبة مختارة من 700 شخص، وأخيرا بعدا غير علني تضمن اجتماع الوزيرة بتسعة من النشطاء المصريين الذين اختارتهم السفارة الأميركية في القاهرة. الجديد جاء أولا في البعد غير المعلن، فسابقا كان الرسميون الأميركيون معتادون بين وقت وآخر على الاجتماع بشخصيات مصرية مختارة لمناقشة مغلقة وصريحة حول قضية الساعة. وحتى سنوات قليلة مضت كان الجانب الأميركي يختار المختلفين معه لكي يستمع إليهم. الآن أصبح الأميركيون يريدون الاستماع فقط إلى المتفقين معهم والمتحمسون مسبقا للطرح الأميركي المعلب سابق التجهيز في واشنطن. تبقى محاضرة الوزيرة الأميركية التي جرى الإعداد لها بعناية وكان هناك حرص أميركي على الترويج لها وتسويقها إعلامياً في أنحاء المنطقة. الوزيرة بدأت بالإشادة بدور مصر في المنطقة، وتحديدا الاتجاه الإصلاحي لأسرة محمد علي في القرن التاسع عشر التي بدأت تحويل مصر إلى أول دولة حديثة في المنطقة (بغير أن تذكر الوزيرة أن الغرب في حينها هو الذي قضى على محمد علي ودولته الحديثة). ثم أشادت بالنظرة التقدمية لحزب الوفد المصري عقب الحرب العالمية الأولى ليجعل من القاهرة القلب الليبرالي لليقظة العربية. هنا أيضا لم تذكر الوزيرة أن حزب الوفد فشل في القضية الأساسية التي نشأ من أجلها وهي التخلص من الاحتلال البريطاني، وأنه طوال 29 عاماً من الديموقراطية والليبرالية والانتخابات النزيهة والمزورة لم يقضِ حزب الوفد في السلطة سوى أقل من سبع سنوات متقطعة. أخيرا أشادت الوزيرة الأميركية بأنور السادات لأنه هو «الذي بيّن الطريق للتقدم نحو الأمام لكل منطقة الشرق الأوسط» بالشروع في التحول الاقتصادي الصعب وبالاتفاق على السلام مع إسرائيل. حينما يكون هذا هو التشخيص الذي تطرحه الوزيرة الأميركية على مصريين فسيستمع إليها المصريون ثم يستديرون إلى واقعهم لكي يعرفوا أين الحقيقة وأين التلفيق. كل هذا كان مجرد مدخل إلى صلب الموضوع الذي هو المستقبل والديموقراطية. على مستوى المنطقة تطرح الوزيرة قاموسا أميركيا من الأخيار والأشرار وبين بين. فحسب طرح رايس في محاضرتها تلك في الجامعة الأميركية في القاهرة يأخذ الأردن دور النموذج للمنطقة كلها حيث الملك والملكة «اعتنقا الإصلاح منذ سنوات عدة». بعدها يجيء العراق إذ «رغم الهجمات العنيفة التي يشنها الأشرار، فإن المواطنين العراقيين العاديين يبدون شجاعة فائقة وعزما لا يستهان بهما. وفى كل خطوة على الطريق ابتداء من استعادة السيادة والاستقلال إلى إجراء الانتخابات إلى صياغة الدستور في الوقت الراهن تجاوز شعب العراق كل التوقعات». ثم هناك الحكومة الفلسطينية المنتخبة بطريقة ديموقراطية. وهناك لبنان حيث يطالب أنصار الديموقراطية بالاستقلال عن «الأسياد الأجانب والتحرر من شرطة الدولة السورية». عند هذا الحد يبدأ الأشرار. في المقدمة سورية التي هي بتشخيص الوزيرة الأميركية «حالة خطيرة وجادة، فبينما شرعت الدول المجاورة لها في انتهاج سبيل الديموقراطية والإصلاح السياسي تقوم سورية بإيواء أو تقديم الدعم المباشر للجماعات الإرهابية المتمسكة بممارسة العنف في لبنان وإسرائيل والعراق والمناطق الفلسطينية». أما ذروة الأشرار فإيران حيث «بدأ نفاد صبر الشعب من النظام القمعي الذي قيد حقوقه وحرياته. إن إجراء الانتخابات لا يحجب ما تقوم به دولة إيران الخاضعة لحكم رجال الدين من عمليات وحشية منظمة». حسب قاموس رايس هناك أيضا منزلة بين بين. عن السعودية مثلا هي ترى «مواطنين شجعاناً» يطالبون بحكومة تخضع للمحاسبة و«قد اتخذت بعض الخطوات الطيبة الأولى باتجاه الانفتاح مع إجراء الانتخابات البلدية أخيراً». لكن هناك ثلاثة أفراد تشكو الوزيرة الأميركية من وجودهم في السجن لتقديمهم التماسا سلميا إلى حكومتهم. أما في مصر فتقول الوزيرة الأميركية: «نحن جميعا قلقون على مستقبل الإصلاحات في مصر حينما لا يكون أنصار الديموقراطية من رجال ونساء أحرارا من العنف. ويجب أن يأتي ذلك اليوم الذي تستبدل فيه حالة الطوارئ بسيادة القانون الذي يستبدل القضاء الاستثنائي بجهاز قضائي مستقل. وعلى حكومة مصر أن تفي بالوعد الذي قطعته إلى شعبها، بل إلى العالم بأسره، بمنح مواطنيها حرية الاختيار». يجب أيضا «أن يتم الانتخاب من دون أعمال عنف أو ترهيب كما يجب أن يتمتع مراقبو وراصدو انتخابات دوليون بالحرية في القيام بمهامهم». الكلام أوله شعارات وآخره طلبات. والطلبات يختلط فيها السم بالعسل والمعقول باللا معقول. ثم أن الوزيرة الأميركية تطرح تلك الطلبات من القاهرة علنا مع تنبيه محدد منها هو: «الآن على الحكومة المصرية أن تثق في شعبها بالذات». قبلها بدقائق في المحاضرة نفسها استخدمت رايس التنبيه نفسه بالنسبة لسورية «فعلى القادة السوريين أن يتعلموا الثقة بشعبهم». لا أعرف وقع تلك التنبيهات الأميركية غير المسبوقة على السلطة المصرية. أعرف فقط أن تلك لهجة لم تألفها مصر حكومة ومعارضة منذ أيام الاحتلال البريطاني. أعرف أيضا أن الحزب الحاكم في مصر مسؤول مرتين: مرة عن وصول الخلل في العلاقة المصرية الأميركية إلى هذا المستوى، ومرة عن تصوره بأن استرضاء أميركا واجب ويكون بتقديم المزيد والمزيد من التنازلات التي تمس فعلا حياة ومستقبل ملايين المصريين. أعرف أخيرا أن الشارع المصري في حال غليان غير مسبوقة منذ وقت طويل وأن الإصلاح الجاد أصبح ملحا ومطلوبا لأسباب مصرية وليس بتشخيص أميركي. هذا النوع الانتقائي من التشخيص الأميركي. تزايد ارتباط السلطة في مصر خلال السنوات الأخيرة بمصالح ضيقة وجماعات منتفعين مغلقة. وأسوأ خيار ممكن الآن هو وضع المواطن المصري بين شقي الرحى: المصالح الضيقة والمنتفعين في ناحية، والتنبيهات الأميركية لمصالح أميركية في ناحية أخرى. المواطن المصري يرفض كلا الخيارين. يرفض الفساد في الداخل ويرفض أيضا التجبر من الخارج. ومن الالفت هنا أن بعض أعمدة الفساد يضعون قدما في السفينة الغارقة وأخرى في السفينة الطافية. ومن الملفت أيضا أن بعض أعلى المحرضين صوتا في التحريض ضد مصر نشأوا أصلا برعاية داخلية مصرية. الآن كذلك تستشهد الوزيرة الأميركية بمقاطع مبتسرة في تاريخ مصر لكي تنطلق منها إلى الدعوة لتوظيف مصر بمستوى المنطقة. ليس من الصدفة أن يغيب من طرح الوزيرة الأميركية وهى الأكاديمية أساسا أن ما تريده المنطقة من مصر، وما يحبه المصريون لأنفسهم، هو أن تعدي مصر المنطقة بقوتها وليس بضعفها. ربما من أجل هذا لا يطيق اليمين الأميركي المتطرف الحاكم ومعه إسرائيل بالتبعية أي حديث عن مصر التحريرية المستقلة اقتصاديا التي استنهضت المنطقة لكي تتحرر وتعتمد على نفسها. وحينما تحذف الوزيرة الأميركية ذلك الدور من تاريخ مصر فالأسباب والمصالح مفهومة. لكن هذا يتساوى مع أن ألقي أنا أو غيري على الوزيرة الأميركية المحترمة محاضرة عن تاريخها هي كأميركية بغير أن أعيد الفضل إلى إبراهام لنكولن. وبالمناسبة هو لم يكن فقط محرر العبيد في التاريخ الأميركي. كان أيضا من دعاة تشجيع وحماية الصناعات الأميركية تحررا من سيطرة السلع البريطانية على السوق الأميركية لأن الاعتماد على الذات هو الطريق الصحيح لبناء دولة عصرية. بفضل ذلك نجحت أميركا في مشوارها وأزاحت من طريقها إمبراطورية بريطانيا العظمى. لكن أميركا المعاصرة لم تعد تحب لغيرها ما أحبته هي لنفسها. أميركا حرة في نفسها. إنما هل نملك نحن مثل هذا الترف؟ --------- صحيفة الحياة اللندنية في 3 -7 -2005