دوت القاعة بالتصفيق والهتاف عندما ظهرت لقطة الفيديو التي كان فيها رجب طيب أردوغان رئيس وزراء تركيا يلملم أوراقه ويغادر غاضبا شامخا مؤتمر ديفوس احتجاجا على كلام رئيس وزراء إسرائيل وتواطؤ إدارة المنتدى معه ، كان ذلك في الاحتفالية التي أقامتها مؤسسة الشهيد فهد الأحمد الدولية للعمل الخيري في العاصمة الكويتية ليلة أمس ، وهو الحفل الذي حضره عشرات الكتاب والمفكرين والسياسيين والإعلاميين من أنحاء مختلفة من العالم ، شهدوا تكريم أردوغان . كان أردوغان هو عريس الحفل ، ليس لحصوله على جائزة الشخصية الإسلامية الأولى لهذا العام ، وإنما أيضا لكلمته الرائعة التي ألقاها في الحفل وكانت مفعمة بالحماسة والعقلانية معا ، وحضور روح الانتماء للوطن وللأمة وللإنسانية فيها ، حرص أردوغان الذي بدأ كلمته بالبسملة وختمها بالسلام باللغة العربية على أن يؤكد أن حقائق التاريخ والجغرافيا تعني أن تركيا والعرب جسد واحد ، وأن الأكاذيب التي شحنت بها كتابات مؤرخين غربيين عن تاريخ العلاقة بين تركيا والعرب لن تغير هذه الحقائق كما لن تعيق خطوات المستقبل من أجل بناء جسور التعاون بين الطرفين على أساس الاحترام والحب ورسائل القلب المفتوح ، وقد حرص على أن يشرح فكرة القلب المفتوح برؤية إسلامية وفلسفية جميلة ، توقف خلالها طويلا لكي يشرح دلالة مفردة "الفؤاد" في اللغة العربية والتركية . أردوغان قال أن تركيا ستكون في القلب من هموم أمتها الإسلامية ، لقد طلبوا منا أن نسكت على ما يحدث في فلسطين ، وقالوا لنا أن الجميع سكت وأنتم أيضا عليكم الصمت ، وعلت نبرة صوته بحدة وهو يقول : لا ، لن نسكت ، ولن نغمض أعيننا عن هؤلاء القراصنة يقصد الإسرائيليين الذين يقتلون أبناءنا وإخواننا وأصدقاءنا في عرض البحر ، مشيرا إلى الاعتداء على سفن قافلة الحرية المتجهة إلى غزة ، وقال أيضا لن نسكت على قتل الأطفال والأبرياء أو حصارهم في غزة ، ولن نتجاهل القدس ولا رام الله ، ثم قال أن موقفه هذا إنساني بقدر ما هو إسلامي ، فهو يرفض العنف والإرهاب أيا كان مصدره وأيا كان ضحاياه الأبرياء ، وقال : إننا نندد أيضا بالجريمة التي ذهب ضحيتها عشرون مسيحيا في الاسكندرية ، ونقدم تعازينا لمصر وشعبها وحكومتها ، ثم أبدى انعطافة أخرى إلى الموقف الأوربي من الإسلام ، وقال صراحة أن أوربا لها موقف عدائي من المسلمين ، وأن هناك "فوبيا" من الإسلام ، وأنه لا يقبل أبدا تلك الدعاية السوداء التي تتحدث عما يسميه الأوربيون "الإرهاب الإسلامي" ، وقال أن هذه إساءة للإسلام لا يقبلها ، وأن الإسلام والإرهاب نقيضان ، وإذا كان هناك مسلم تورط في أعمال مجرمة أو إرهابية فهو مجرد منحرف ومجرم وفي ضلال كبير ، ولا يحسب عمله على الإسلام ، ولا يكون مبررا لصياغة هذا المصطلح الكاذب . أردوغان دعا إلى الوحدة بين عواصم الأمة الإسلامية ، وقال : لماذا لا يكون لنا اتفاقية "شنجن" مثل تلك التي فتحت حدود دول الاتحاد الأوربي ، بحيث يتحرك مواطنوها في جميع البلدان بحرية وبدون حدود ولا تأشيرات ، مشيرا إلى أن تركيا بدأت منذ ثلاث سنوات خطوات عملية في هذا الاتجاه ، فتم إلغاء تأشيرات الدخول بين تركيا وثلاث بلدان عربية وهي سوريا ولبنان والأردن وأصبح المواطنون يتحركون بحرية بين البلدان الأربعة ، قال ذلك أردوغان قبل ساعات فقط من إعلان رئيس الجمهورية ، صديقه ورفيق دربه عبد الله جول من العاصمة اليمنية صنعاء انضمام اليمن للاتفاقية لتصبح الدولة الخامسة . أردوغان قال أن الحاكم المسلم هو خادم لوطنه ولأمته وراع لمصالح الناس ، متحدثا بلغة الأرقام عن الإنجازات التي وفق الله حزبه في تحقيقها في تركيا خلال ثماني سنوات ، وهي السنوات التي تولى فيها رئاسة الوزراء ، فقال أن الناتج القومي التركي عند استلامه للسلطة قبل ثماني سنوات كان 230 مليار دولار ، والعام الماضي 2010 أصبح الناتج القومي التركي 740 مليار دولار ، وأن صادرات تركيا عندما تسلم المهمة قبل ثماني سنوات كانت 36 مليار دولار ، وهذا العام وصلت صادرات تركيا للعالم إلى 114 مليار دولار ، وأن التضخم كان 30% واليوم أصبح التضخم 7% ، والحقيقة أن هذا إنجاز يصل إلى حد المعجزة الاقتصادية ، والغريب أنه يقول ذلك بتواضع شديد وبدون أن يمن على شعبه بما فعله أو باستعراض مفتعل لحكمته وعبقريته ، مثل هؤلاء الذين يصنعون الوهم لشعوبهم . أردوغان وصل الكويت في وفد ضخم من حوالي 400 شخصية ، غالبيتهم العظمى رجال أعمال أتراك ، يفتح لهم بذكائه وثقافته الرفيعة أبواب الخير لهم ولوطنهم ، ولم يأخذ معه إلا نفر قليل من السياسيين ، وهو يفعل ذلك في جميع زياراته للمنطقة العربية والآسيوية والأوربية ، إنه مشغول بنهضة وطنه وحماية مقدرات بلاده وليس بمصالحه الشخصية الضيقة أو حتى بمجده الشخصي أو بالخطب والزعيق السياسي الفارغ ، وقد قال أردوغان في كلمته أن هناك في تركيا وخارجها من يعادون هذا التوجه الذي يقوده نحو العالم العربي وهناك من يحاولون عرقلته ثم قال بحسم : لا أحد يمكنه أن يملي علينا سياستنا الخارجية ، نحن الذين نصنع سياستنا الخارجية ، ونحن من يوجه سهامها . لا تستهويني كثيرا ظاهرة التصفيق للكلمات والخطب مهما كان وهجها ، ولكني ضبط نفسي في قاعة الاحتفال وأنا أصفق طويلا عقب انتهاء كلمته وأقف احتراما لهذا الزعيم العظيم . [email protected]