كان المشهد مثيرا فى تلك الحلقة النقاشية التى شهدها منتجع دافوس السويسرى وعقدت مساء الخميس الماضى فى إطار فعاليات المؤتمر السنوى للمنتدى الاقتصادى العالمى. الحلقة خصصت لمناقشة الأوضاع السياسية فى منطقة الشرق الأوسط وشارك فيها كل من: بان كى مون، الأمين العام للأمم المتحدة، وعمرو موسى، الأمين العام لجامعة الدول العربية، ورجب طيب أردوغان، رئيس وزراء تركيا، وشيمون بيريز، رئيس وزراء إسرائيل، وأدارها ديفيد أجناسيوس، كاتب العمود المعروف بصحيفة «الواشنطن بوست» الأمريكية. وكما كان متوقعا، فقد سيطرت أحداث المجزرة التى ارتكبتها إسرائيل فى غزة على معظم النقاش، خصوصا أن بيريز كان أحد نجوم الحلقة، والأرجح أن يكون قد حضر خصيصا إلى هذا الملتقى المهم ضمن حملة علاقات عامة إسرائيلية تستهدف تبييض وجه إسرائيل الذى سودته الجرائم التى ارتكبتها فى قطاع غزة، ولاتزال حية فى أذهان الجميع. لذا كان من الطبيعى أن يحاول بيريز توظيف كل ما يمتلكه من خبث وذكاء ومهارة فى مخاطبة المستمعين أو المشاهدين على اختلاف مشاربهم ومستوياتهم، والتى استمدها من خبرته الطويلة فى المشاركة فى هذا النوع من اللقاءات المفتوحة، لاستمالة جمهور دافوس المهم والمؤثر. وكعادة القادة الإسرائيليين فى مثل هذه المواقف، لم يلجأ بيريز إلى أسلوب الدفاع والتبرير، وإنما اتخذ موقفا هجوميا متحفزا ومتحديا ولم يتردد فى توجيه أصابع الاتهام والنقد إلى الموقف التركى، وراح يصول ويجول ويوظف كل مواهبه للدفاع عن المجزرة الإسرائيلية، وبدا وكأنه يسيطر تماما على جمهور المستمعين، لدرجة أنه قوطع بتصفيق حاد أثناء مرافعته التى استغرقت خمسا وعشرين دقيقة! غير أن بيريز، الذى اعتاد أن يسمح لنفسه بمهاجمة أى شخص كائنا من كان دون أن يجرؤ على الرد، فوجئ هذه المرة بما لم يكن فى الحسبان.. فها هو الطيب رجب أردوغان ينبرى للرد عليه لافتا نظره إلى أنه تحدث إليه بطريقة غير لائقة، وهى طريقة مرفوضة لأنه ليس شيخ قبيلة، وإنما رئيس وزراء منتخب لدولة كبيرة اسمها تركيا، وبالتالى فعليه أن يتحدث بأدب. ولم يتردد رئيس وزراء تركيا فى وصف ما قاله بيريز حول أحداث غزة بالكذب، واستشهد بأقوال سياسيين وعسكريين إسرائيليين أدلوا بأحاديث يفاخرون فيها بقتل الأطفال ويحسون بالنشوة وهم يقتحمون منازل المدنيين العُزّل فى غزة!. ثم وجه حديثه إلى بيريز مباشرة، قائلا له: «يا سيد بيريز فيما يخص القتل أنت تعرفه جيداً وانا أعرف جيداً أيضا كيف قتلتم الأطفال عند الشاطئ». بل إنه لم يتردد فى توجيه انتقاده مباشرة للجمهور الذى يستمع إليه والذى عاب عليه تصفيقه لقاتل. وعندما حاول مدير الحلقة مقاطعته ولفت نظره إلى موعد العشاء وأصر على منعه من الكلام، لم يتردد أردوغان فى الوقوف محتجا على إدارة الجلسة المنحازة والتى سمحت لبيريز بأن يتحدث لمدة 25 دقيقة بينما لم تسمح له هو إلا بأقل من نصف هذا الوقت للرد! ثم غادر أردوغان المكان وهو يعلن اعتزامه عدم الحضور مرة أخرى بعد ذلك إلى دافوس، حيث لا مكان إلا للأغنياء والأقوياء وأصحاب النفوذ! من أين أتى أردوغان بكل هذه الشجاعة، وما هى الأسباب التى دفعته لاتخاذ مثل هذا الموقف النبيل وغير المعتاد؟! أظن أنه استمدها من ثلاثة أسباب: أولها: إيمان حقيقى وعميق بعدالة قضية شعب محتل، صمم جميع أفراده، بمن فيهم الأطفال والنساء والشيوخ، على الدفاع عنها بصدورهم العارية، وأصبحوا جاهزين ومستعدين للموت فى سبيلها، حتى من تحت أنقاض بيوتهم المهدمة. ولا أعتقد أن هذا الإيمان مستمد من رؤية أيديولوجية، أو مدفوع بأغراض سياسية أو مصلحية، بقدر ما هو مدفوع بأسباب إنسانية بحتة ولدتها صور مآسٍ إنسانية، تقشعر لها الأبدان، نقلتها كل الفضائيات وشاهدها الجميع. وثانيها: ثقة كبيرة بالنفس لدى زعيم سياسى انتخب ديمقراطيا من جانب شعب عظيم لدولة عريقة، وليست لديه مصلحة شخصية يتوسلها من هذه الدولة أو تلك. فليس لديه ولد يسعى لتوريثه رغم أنف شعبه، أو مال حرام يسعى للحصول عليه دون وجه حق، ويدرك تمام الإدراك أن شعبه يقف وراءه داعما ومؤيدا، بدليل أنه هبّ إلى المطار لاستقباله كبطل قومى لدى عودته إلى بلاده قادما من دافوس! وثالثها: ضيق واضح بمراوغة دولة، احترف زعماؤها الكذب، ومارسوا أساليب التضليل والخداع والابتزاز مع كل من تعامل معهم، وهو أمر خبره بنفسه وسبق له أن أدانه وندد به حين كشف قبل ذلك فى حديث علنى وصريح عن خداع أولمرت له وكذبه عليه. لا أستبعد أن يحاول البعض إظهار ما حدث وكأنه محاولة شخصية من جانب رجل طموح يريد لفت الأنظار، بادعاء البطولة، أو عمل مدبر لأغراض سياسية واستراتيجية تستهدف سحب البساط من تحت أقدام إيران، والسعى لتقديم تركيا كبديل قادر على تبنى القضية الفلسطينية وأكثر تأهيلا للدفاع عنها ولعب دور الوسيط فى الصراع العربى - الإسرائيلى بحكم علاقات تركيا المتميزة مع الولاياتالمتحدة ومع الدول الأوروبية وحتى مع إسرائيل، وأيضا بحكم عضويتها فى حلف شمال الأطلسى. غير أننى لا أعتقد أن شيئا من ذلك كله كان وراء مشهد دافوس المذهل الذى تابعته والملايين على الفضائيات. فأردوغان لم يكن فى يوم من الأيام نموذجا للسياسى الانتهازى، أو للسياسى الدوجماتى المؤدلج، وأثبت فى مواقف كثيرة أنه نموذج للسياسى الذكى القادر على الجمع بين الرؤية المبدئية والمواقف البراجماتية المدروسة فى تناغم، ويعرف كيف ومتى يتخذ المواقف السياسية التى تعبر فى شموخ عن طموحات شعبه وتدافع عن كرامته. لست أدرى ما هو الثمن السياسى أو الشخصى الذى قد يجد أردوغان نفسه مضطرا لدفعه ثمنا لهذا الموقف الشجاع والنبيل فى آن، غير أننى على ثقة من أن هذا الموقف سيسجل لصالحه فى التاريخ، ليس باعتباره موقفا لرجل يبحث عن مجد شخصى، ولكن باعتباره موقفا يعبر عن شخصية زعيم سياسى قادر على الإحساس بنبض ومشاعر وطموحات شعب يؤمن بعظمته وكبريائه. لم أكف، عقب متابعتى هذا المشهد المثير، عن مقارنة سلوك زعماء من أمثال رجب طيب أردوغان بسلوك المسؤولين العرب فى مواقف مشابهة أو مماثلة. ولم أكن فى حاجة لوقت طويل كى أصل إلى نتيجة مفادها، أن الفرق كبير وأن المقارنة تميل بشكل حاسم لغير صالح زعمائنا. أما الأسباب فتبدو من فرط وضوحها بديهية، فزعماؤنا لم يعودوا يؤمنون بشىء سوى المحافظة على كراسيهم وجمع وتكديس أموال حرام. ولأنهم ليسوا منتخبين من شعوبهم ويدينون لقوى خارجية بمواقعهم وكراسيهم، فمن الواضح أنهم ليسوا معنيين فى قليل أو كثير بمشاعر أو بطموحات أو بكرامة أو بكبرياء شعوبهم! ولأنهم احترفوا الكذب والخداع والتضليل وتزوير الانتخابات، فقد أصبح جلدهم سميكا فى حضرة أسيادهم، ولم تعد لديهم حساسية للإهانة أو التجريح من جانبهم. ولأنهم تعودوا أن لا يصبحوا أسودا إلا فى مواجهة شعوبهم، فمن الطبيعى أن يكتفوا بدور النعامة أمام أولياء نعمتهم! كدت أصفق لأردوغان حين شاهدته يخرج غاضبا فى شموخ بعد أن كال الصاع صاعين لبيريز ولمدير الندوة المنحاز وحتى للجمهور المخدوع. وكدت أصفق لعمرو موسى حين وجدته يقف ويسلم على أردوغان وتصورت أنه ربما يخرج معه محتجا ومتضامنا، ولو كان قد فعل لذكرنا بعمرو موسى «بتاع زمان» الذى أحبه الناس، غير أن عمرو موسى فضل أن يعالج الموقف بدبلوماسية ويستجيب لمطالبة الأمين العام للأمم المتحدة له بالبقاء وعدم مغادرة القاعة. وربما يكون عقلى على استعداد لتفهم ما قام به أمين عام جامعة الدول العربية، لكن قلبى لم يقره على ما فعل. ولا أستبعد أن يكون صراعا قد نشب بين جوانحه حول أى من المواقف يختار: تلبية نداء القلب أم نداء العقل. وقد لبى نداء العقل، لكنى أظن أن نداء القلب فى هذا الموقف كان هو الأدعى للتلبية، لأنه الأقرب إلى مشاعر الجماهير العربية وأحاسيسها فى تلك اللحظة الفاصلة من تاريخ أوطانهم، لكنه فضّل الاستجابة لنداء العقل الأقرب لمطالب الحكام.. ياخسارة!. أظن أنك كنت ستكسب أكثر لو خرجت مع أردوغان، الذى أود أن أنحنى له إجلالا.