كان عبد الناصر على وعى واضح بالدور الذى يمكن أن تقوم به أجهزة الإعلام فى التمكين للثورة فى عقول وقلوب الناس، وفى المواجهة مع أعداء الثورة سواء فى الداخل أو فى الخارج، خاصة هذه الساحة الثانية، حيث إن مصر بإمكانياتها المحدودة لم تكن بالمقدرة الكافية التى يمكن بها أن تخوض معارك خارجية ضد الاستعمار، لكن عن طريق أجهزة الإعلام، فإن مثل هذا الأمر يمكن أن يتحقق ولو جزئيًا. فما أن مر يومان على قيام الثورة حتى صدر قرار من القائد العام للقوات المسلحة يوم 25 يوليو 1952، بفرض الرقابة الحربية على الصحف، وكان أمرًا مفهومًا فى هذا التوقيت بالذات، حيث لابد أن تواجه الثورة أخطارًا، كثير منها غير معلوم مصدره، لكن المشكلة هى أن هذه الرقابة كانت ضيفًا ثقيلاً على الصحافة معظم سنوات الثورة، صحيح أنها كانت تلغى، لكن لفترات قليلة، ثم لا تلبث أن تعود مرة أخرى.
وعندما طالب بعض الصحفيين عام 1953 برفع الرقابة، رد عبد الناصر عليهم على صفحات روزاليوسف فى 11/5/53 متسائلاً: "أنا أكره بطبعي كل قيد على الحرية، ومع ذلك فأين هى الحرية التى قيدناها؟!!" (رمزي ميخائيل، أزمة الديمقراطية ومأزق الصحافة:17).
وأرادت الثورة أن تكون لها صحافتها، ومن هنا ظهرت مجلة "التحرير" بعد فترة وجيزة فى 16/9/52، عن إدارة الشئون العامة للقوات المسلحة، يرأس تحريرها أحمد حمروش الذى استعان بعدد متميز من الكتاب والصحفيين اليساريين، وكانت المجلة شكلاً فريدًا وجديدًا فى الصحافة فى ذلك الوقت، فراجت رواجًا كبيرًا (ليلى عبد المجيد حرية الصحافة فى مصر بين التشريع والتطبيق: 13)، لكنها لم تسلم من ذلك الفيروس الذى أصاب الصحافة المصرية جميعها، ألا وهو أن تكتب المجلة أو الصحيفة ما لا يتفق مع توجهات السلطة القائمة، فنُحى حمروش، على أساس غلبة الاتجاه الماركسى، وجاء ثروت عكاشة، الذى واصل السير بها بنجاح، ثم ما لبث هو نفسه أن نُحى عنها وفقًا للمنطق نفسه، وإن اختلف السبب (ثروت عكاشة مذكرات فى السياسة والثقافة، ج1، ص 120).
لكن كان الحدث الأهم هو صدور جريدة يومية لتكون لسان حال الثورة ألا وهى "الجمهورية" فى السابع من ديسمبر 53، حيث ضمت إليها كوكبة من أفضل الكتاب، من اتجاهات متنوعة، على أساس أن تعيد صحافة الرأى، بعد أن كانت صحابة الخبر والصورة والتحقيق قد سادت الساحة (ليلى عبد المجيد: 14).
وبدأت الثورة طريقًا مؤسفًا فى 18/1/53، عندما أمرت بتعطيل عدد من الصحف والمجلات بتهمة أنها "منشورات شيوعية ومتطرفة" (المرجع السابق، ص 17).
ومثلما حدث لقطاعات مدنية متعددة، حدث كذلك زحف عسكرى على الصحافة، صحيح أن بعض العسكريين كانت لهم توجهات صحفية وأدبية، لكن الكثرة لم تكن كذلك، فرأينا أنور السادات يشرف على دار التحرير، والتي تقلب عليها أيضًا كمال الحناوي، ومصطفى بهجت بدوى، وخالد محيى الدين يصدر جريدة المساء 56، ثم رئيسًا لدار أخبار اليوم، وصلاح سالم يصدر جريدة الشعب، ويوسف السباعي يرأس تحرير مجلة الرسالة الجديدة، وآخر ساعة، وحمروش لمجلة الكاتب، وأمين شاكر لأخبار اليوم، وأصدر أيضًا مجلة بناء الوطن، وعبد الرءوف نافع عضوًا منتدبًا لدار الهلال (غالى شكرى، المثقفون والسلطة فى مصر: 365).
وعندما انتهت أزمة مارس، هوجم أساتذة الجامعات، وضربوا طه حسين والدكتور السنهورى رئيس مجلس الدولة ضربات لها دلالتها فى اكتساح مراكز التفكير، وبعد أيام قرر مجلس قيادة الثورة تطهير الجامعة والصحافة من المغايرين، وفى يوم 16 أبريل حُلت نقابة الصحفيين، وكذلك مجلس نقابة المحامين، ثم كانت تلك المذبحة التى تعرض لها 23 من كبار الصحفيين، مثل كامل الشناوي، وإحسان عبد القدوس، وروزاليوسف، و14 مجلة وصحيفة باتهامهم بتلقى أموال سرية (فتحى غانم، معركة بين الدولة والمثقفين: 24)، وحكم بالسجن عشر سنوات وخمسة عشر عامًا على محمود أبو الفتح وأحمد أبو الفتح صاحبي وكاتبي أشهر صحيفة يومية، "المصرى"، وسحب رخصة إصدارها، حيث توقفت تمامًا يوم 4 مايو 54، وأطبقت الكماشة على الصحافة والجامعة، تحاصر الفكر والرأي، وكانت مذبحة للعقول، وثمنًا باهظًا تحمله المصريون وقبلوا التضحية به ورفعوا عبد الناصر إلى مرتبة الزعامة الحقيقية، وكان أملهم مرة أخرى أن يبدأ عهد جديد وأن يتراجع السيف ليبنى القلم (فتحى غانم: 25).
وفى وسط القهر الذى تعرض له الصحفيون، فتح الباب واسعًا للوشايات والنميمة سواء بالتطوع الشخصي أم عن طريق الأجهزة الأمنية (المرجع السابق، ص 42).
وكان الصحفيون أول من تلقوا غضب الجماهير وضعفت ثقتهم بهم، بحيث لم يعد قارئ يصدق ما يكتبون وما يخبرون، وفقدت أجهزة الإعلام الأخرى: الإذاعة والتليفزيون ووكالات الأنباء مصداقيتها بعد صدمة يونيو العنيفة، فقد صعقت الجماهير وقد انتشت من قبل بصوت أحمد سعيد فى صوت العرب يجلجل مبشرًا بقرب اقتحام تل أبيب، والمانشيتات الحمراء الضخمة تتصدر عناوين الصحف معلنة عن عشرات الطائرات الإسرائيلية التى أسقطناها، وكان كل هذا كذبًا!
وكانت الضربة الموجعة حقًا تتمثل فى صدور القانون رقم 156 الصادر فى 24/5/60 والذي سمى بقانون "تنظيم الصحافة"، وبمقتضاه انتقلت ملكية دور الصحف الكبرى إلى الدولة، مثل الأهرام، ودار الهلال، ودار أخبار اليوم، عن طريق إناطة مسئوليتها بالاتحاد القومى، ثم بعد ذلك الاتحاد الاشتراكى (رمزى ميخائيل: 55).
وهذه التسمية "تنظيم الصحافة" مؤشر على كيفية تسمية الأمور بغير أسمائها الحقيقية.
لقد استثمر محمد حسنين هيكل، وهو الصحفى الكبير، براعته فى الكتابة ليصك هذا المصطلح لإخفاء الحقيقة المرة، ألا وهى "تأميم الصحافة"، وعندما نقول تأميم الصحافة، فمعنى هذا تأميم العقول، ومصادرة الرأى المغاير، تمامًا كما صك هيكل بعد ذلك مصطلح "النكسة"، تخفيفًا من ثقل التوصيف الحقيقى وهو الهزيمة. كان ما حدث تأميمًا حقيقيًا، لأن الاتحاد القومى، ثم الاتحاد الاشتراكى بعد ذلك، كان يرأسه رئيس الدولة، وهو الذى يختار ويعين قياداته، ومن ثم فقد كان معنى هذا أن يتحول كل العاملين فى الصحافة إلى موظفين لدى الدولة هى أو رئيسها بمعنى أصح الذى يختارهم ويعينهم، والحكومة هى التى تدفع لهم مرتباتهم، ومن ثم فقد تحددت وجهة الولاء والتبعية، ثم إن كل قانون إنما يكون لتنظيم أمر من الأمور، فقانون الإيجار هو لتنظيم الإيجار، وقانون الأحوال الشخصية هو لتنظيمها.. وهكذا!
وتمتلئ كتب عديدة بأمثلة يصعب حصرها تشير إلى ما أحاط بالصحفيين من مناخ يدفعهم دفعًا لأن يتحولوا إلى أصوات تردد ما يُراد لها أن تكتب.
ومن هنا كانت البداية المؤسفة.. بداية السقوط على المنحدر الخطير.. حرية العقول، وديمقراطية التفكير.