رصد حرية الصحافة منذ بداية السبعينيات وحتى هذه اللحظة ليس بالأمر البسيط بالنسبة إلى وخاصة أننى لست من الجيل الذى عاصر هذه الفترة حتى أتجاوز مجرد الرصد والسرد إلى الوصف الدقيق، ومع ذلك لم أتردد لحظة فى تنفيذ الفكرة ولجأت فوراً لوالدى لأنه أحد أهم كبار الكتاب والصحفيين، وأيضاً من المؤيدين لحرية الصحافة لكن قبل ذلك كان يجول برأسى مشهدان، الأول عن الأفلام التى قدمتها الدراما المصرية عن المخابرات فى عهد جمال عبدالناصر، وما كانت تعرضه من تعذيب للشباب لمجرد أن عددهم تجاوز الخمسة أفراد جالسين فى مقهى أو حتى أن لهم توجهات سياسية هم مقتنعون بها كالشيوعية. أما المشهد الثانى فكان من كتاب التاريخ بالمرحلة الإعدادية حيث درسنا أن الصحافة بدأت فى عهد محمد على وازدهرت فى العصر الملكى، لكن بالتأكيد فإن ذاكرتى لن تسعفنى لأتذكر كل التفاصيل. وبدأت أبحث عن تاريخ الصحافة على الإنترنت فوجدت مقالاً لأحمد حمروش، وهو عضو تنظيم الضباط الأحرار وأحد أبرز مؤرخى ثورة 32 يوليو، بعنوان قصة الصحافة فى مصر« فى جريدة الشرق الأوسط بتاريخ 4 سبتمبر .1002. كتبه حمروش بمناسبة مرور 521 عاماً على صدور العدد الأول لجريدة الأهرام« ليؤكد أن الأهرام لم تكن أول جريدة مصرية وإنما سبقتها عدة إصدارات على عصور مختلفة فمنذ بداية الحملة الفرنسية على مصر ودخول المطابع صدرت أول جريدة فى مصر والوطن العربى تدعى التنبيه«، ثم بعد ذلك صدرت الوقائع المصرية« عام 8281، والتى كان يطلق عليها جورنال الخديوى« وأخذت هذه الصحيفة شكلاً متطوراً عن سابقتها، واستطاع الشعب المصرى من خلالها أن يعرف الصحافة وأهميتها. وعندما دخل الاحتلال البريطانى مصر 2981 رصدت صحيفة المقطم ونُشر فيها صراحة أن الغرض من إصدارها هو تأييد السياسة الإنجليزية، وتبعها العديد من الصحف منها المؤيد« واللواء« والتى أسسها الزعيم مصطفى كامل 0091 ثم ظهر دور الصحافة الحزبية مع اشتعال ثورة 9191 وتكوين الوفد. واستمر الأمر هكذا إلى أن قامت ثورة 32 يوليو وأصدرت مجلة التحرير التى كان لحمروش رئاسة تحريرها وتبعتها جريدة الجمهورية، والتى ترأس تحريرها أنور السادات ثم صلاح سالم، وجريدة المساء وترأسها خالد محيى الدين، ويختتم حمروش مقاله بأن الوضع استمر على هذا الحال حتى عام 1691 عندما صدرت قرارات بتنظيم وتأميم الصحافة لتبدأ مرحلة جديدة.. وهى مرحلة لها قصة أخرى!! أنهى حمروش مقاله نهاية أثارت فضولى جعلتنى لا شعورياً أفكر وأخمن ما حدث بعد ذلك، وأخذنى تفكيرى مرة أخرى إلى تلك الأفلام التى لم أشاهدها إلا بعد انتشار الفضائيات مثل إحنا بتوع الأتوبيس« والكرنك« وهى تستعرض حرية المواطن المصرى بوجه عام خلال فترة معينة من الزمن. ولكنى لم أترك ذهنى كثيراً للتخيلات وذهبت لأبى كى يخبرنى عن هذه الفترة ودار حوار بين جيلين.. كان أبى يباهى بما وصل إليه حال الصحافة الآن من خلال سرد هذه القصة الأخرى- كما يقول أحمد حمروش- وكنت أنا أنصت والدهشة تملأ عينى وقلت لنفسى: الحمد لله أننى أسمع فقط هذه القصة الأخرى ولم أعشها.. ولو كنت لسجنت واعتقلت مائة مرة، فنحن جيل حر« بكل ما تحمله الكلمة من معان، وليس لنا ضابط إلا أنفسنا.. المهم أعود مرة أخرى إلى الحوار الذى بدأته بسؤال لم أشعر بقيمته إلا بعد أن سمعت الإجابة عنه من أبى حيث طلبت منه أن يحدثنى عن حرية الصحافة فى السبعينيات. فقال لى: هل تعلمين أن عدد الصحف فى زمانكم هذا وصل إلى 005 صحيفة بخلاف الفضائيات والقنوات الإخبارية ومحطات الراديو الجديدة التى تظهر كل يوم والإنترنت وهذه وحدها تعد طفرة. وإذا قارنا هذا بالسبعينيات سنجد أن أولاً لم يكن هناك سوى صحافة الحكومة التابعة للاتحاد الاشتراكى وكان عددها ثلاث صحف فقط. وكانت الصحافة المصرية وقتها تخضع للرقابة، بمعنى أن كل صحيفة يوجد بها رقيب معين من وزارة الإعلام له السلطة المطلقة فى إجازة أو حذف أى معلومات قبل نشرها، وقبل حرب أكتوبر على وجه التحديد كانت تحدث العديد من الأزمات بين الدولة من ناحية والصحافة والصحفيين من ناحية أخرى يتم على إثرها القيام بما يسمى بالتجريدات الأمنية والتى كانت تتم كل 5 سنوات. فقاطعته: مش كفاية رقيب.. كمان تجريدات وأمنية.. يعنى إيه بقى تجريدات أمنية؟ فقال: هى إجراءات كان بمقتضاها يتم نقل الصحفيين من عملهم إلى شركات الدواجن والأحذية وأشهرها باتا والهيئة العامة للاستعلامات، ولم يحدث هذا مع صحفى أو اثنين وإنما مع العشرات. ويستطرد: لم تكن هناك صحافة حزبية ولا خاصة لأن الأحزاب عادت إلى المسرح السياسى عام 7691. وقبل الثورة كان هناك العديد من الصحف الحزبية ولكن تم تأميمها بعد الثورة ليمتلكها الاتحاد الاشتراكى العربى، وكان هذا يشكل عائقاً أمام الصحفيين لأنه لم يسمح بمزاولة المهنة إلا لأعضاء الاتحاد فقط ناهيك عن قوانين حبس الصحفيين، والتى كان يطلق عليها القوانين سيئة السمعة كقانون العيب«، ويعنى العيب فى ذات الرئيس، فلم يكن هناك أى حصانة للصحفيين. ما قاله أبى جعلنى أتذكر المحاكمة التى أجريت منذ عامين لعدد من الصحفيين بسبب نشر معلومات غير صحيحة عن صحة الرئيس، وعلى أثر ذلك حكم عليهم بالحبس والغرامات، وتدخل الرئيس مبارك وأصدر عفواً رئاسياً عن هؤلاء الصحفيين المعارضين لتكون هذه هى المرة الأولى التى يستخدم فيها رئيس مصر صلاحياته للعفو عن صحفى معارض للنظام صدر ضده حكم قضائى. عدت مرة أخرى للحديث مع أبى خصوصاً حول نقطة التأميم هذه، فأنا أرى الآن أن الصحافة الحزبية لها مكانها وسط الصحف الخاصة والقومية لكنها بطبيعة الحال متأثرة بالصراعات الداخلية فى الأحزاب. فسألته: متى حصلت الصحافة الحزبية على استقلالها؟ فقال: عودة الصحافة الحزبية كانت فى عام 67، حيث قرر الرئيس السادات أن يحول النظام السياسى إلى منابر، وكانت هناك ثلاثة منابر هى اليمين والوسط واليسار، وذلك بدلاً من الاتحاد الاشتراكى، وعام 77 قرر السادات إلغاء المنابر والعودة إلى نظام الأحزاب مرة أخرى وكان لا يوجد سوى ثلاثة أحزاب هى حزب مصر والتجمع والأحرار، وأطلق السادات بعد ذلك حرية إطلاق الأحزاب وكان لها الحق فى إصدار الصحف دون الحصول على تراخيص من المجلس الأعلى للصحافة ولكن يكفى إخطاره دون أن يكون له حق الاعتراض، وكان ذلك بعد إنشاء مجلس الشورى وانتقال ملكية الصحافة القومية من الاتحاد الاشتراكى العربى إليه، وإنشاء المجلس الأعلى للصحافة التابع لمجلس الشورى لإدارة شئون الصحافة. وأنهينا الحوار عند هذا الحد أو يمكن القول بأننى اكتفيت بهذا القدر فلم أكن أتخيل يوماً أن مصر مرت بهذا الانغلاق ومصادرة الرأى، وإذا كنت صحفية من هذا الجيل كيف سأعمل وأنا أعلم جيداً أن حريتى يمكن أن تصادر فى أى وقت، وأن مصادر المعلومات قاصرة على جهات بعينها هى التى تتحكم فى بثها ونشرها وليس من حق أحد أن يعترض.