قبل أكثر من ألف وثلاثمائة عام أرسل أحد الولاة "المحافظين" إلى أمير المؤمنين"السيد الرئيس" يطلب منه زيادة في الميزانية المخصصة له من أجل رفع أسوار عاصمة ولايته وإحكامها ، فكتب له السيد الرئيس ، أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز جملة بليغة وشديدة الاختصار حفظها لنا التاريخ ، قال "وماذا تنفع الأسوار ، حصنها بالعدل ، ونق طريقها من الظلم" ، دائما نستحضر مثل هذا الوعي الفطري البسيط كلما ألمت ببلادنا مثل هذه المصائب التي لا نكاد نخرج من إحداها حتى نسقط في التالية ، أقول هذا بطبيعة الحال بعد الحادث الإرهابي البشع الذي وقع في المنصورة ، والذي تتوجب إدانته من أي وطني مخلص لهذا الوطن ، وأن يتصدى الجميع لخطره كل حسب ما يملك ويستطيع ، لأن هذا الإرهاب الأسود شر محض ، ولا يمكن أن يكون طريقا لبناء وطن أو تأسيس للخير ، والإرهاب لا يبرره شيء ، ولا حتى الظلم أو الإحساس به ، لأن الإرهاب هو حالة كراهية عمياء تصيب الأبرياء وتأخذ الجميع بذنب لا يكونون عادة طرفا فيه ، هو طيش العنف المحفوف بالكراهية ، ولا يملك قضية منطقية في غالب الأحيان . وإذا كان التصدي لهذه الجرائم له أكثر من طريق وأكثر من بعد ، إلا أن قيمة "العدل" بما تحقق في المجتمع من تفريغ للكراهية وإحساس بالأمان والثقة بأن الحقوق تصل لأصحابها وأن الظلم لا يمرر والظالم ينال جزاءه ، وزيرا كان أو غفيرا ، يجفف تلقائيا أي منابع للإرهاب ، ويفرغ شحنات الغضب والكراهية للمجموعات والقوى المختلفة ، ويصرفها لأعمال نافعة أو تدافع سلمي وآمن ، وينهي مستويات العنف أو يخفضها إلى أدنى مستوى ، ويوجد بيئة شعبية واجتماعية مستعصية على أي خلايا لهذا الإرهاب فلا يستطيع أن يعيش بين جنباتها ، ويجفف منابع هذا العنف الذي يكون في البداية فكرة ، لأن الفكرة لن تجد الواقع والبيئة التي تساعدها على التوهج والانفجار وإقناع البسطاء ، العدل هو مفتاح بناء نهضات الأمم واستقرارها وحضاراتها ، هو الدواء السحري لاستقرار المجتمعات وأمنها وأمانها وطيب عيشها ، ولذلك كان علماء المسلمين وأئمتهم يقولون : إن الله تعالى يقيم دولة العدل ولو كانت كافرة ، ولا يقيم دولة الظلم ولو كانت مسلمة ، وهي عبارة توزن بماء الذهب عندما تخرج من أئمة الدين وعلمائه . لا يمكن أن نعزل حادثة التفجير الإرهابي في المنصورة بعيدا عن أجواء ما يحدث في مصر حاليا ، وأجواء العنف التي تظلل مصر على مختلف المستويات ، وخطاب العنف الذي يعبر عن تشنجات الجميع ، السلطة والعسكر والشرطة والقضاء والنيابة والإخوان والإعلام والإسلاميين والليبراليين واليساريين ، كل ما حولنا يدعو للعصبية والغضب ، كل ما حولنا متشنج ومشحون وجاهز للانفجار ومحرض على العنف بسلوكه أو كلامه أو إجراءاته ، كل ما حولنا يعبئ الوطن بأجواء العنف والكراهية ، كل ما حولنا يصنع بيئة خصبة لأفكار العنف والإرهاب أن تنمو وتكتسب شبانا جددا يتحولون إلى قنابل موقوتة تنفجر فينا وفي الوطن كله ، صوت العقل والحكمة والهدوء والتوافق والتسامح والاجتماع عندما يغيب من الطبيعي أن يتصدر المشهد أصوات الغضب والعنف ، والعنف يكون في طلقات الرصاص كما يكون في الشعارات والهتافات كما يكون في أحكام وقرارات كما يكون في قوانين وتشريعات ، ومناخ العنف تزداد خطورته في الدوامات التي يولدها ليصبح إعادة إنتاج العنف تتم بشكل آلي وتلقائي بدون قدرة على الخروج من دائرة أسره ، وهو ما يفضي إلى كوارث وانفلات الأمور بشكل يعقد أي حل ويفتح المجال أمام أطراف أجنبية للتدخل كما نرى في بلدان كثيرة . البعض يتصور أنه بصدور تشريع يجعل الإخوان أو غيرهم جماعة إرهابية سينام مطمئن البال وتنتهي مشكلات مصر وتمضي المسيرة ، والبعض يتصور أنه بتوسيع نطاق الاعتقالات والتعذيب والاستباحة لحقوق الإنسان وآدميته وعنف السلطة يمكن وقف العنف والإرهاب ونبدأ في بناء الدولة ، والبعض يتصور أن إنجاز الدستور الجديد سيولد دولة جديدة ومجتمعا جديدا وشرعية جديدة تفتح الآفاق للسلام والبناء والنهضة ، رغم أن الدستور كعقد اجتماعي يستحيل أن يبنى أو يولد على مجتمع منقسم كما هو الحال في مصر ، سيكون حبرا على ورق ، سيتحول إلى مجرد تغذية جديدة لأجواء العنف والاحتقان والكراهية وتعزيز للانقسام الوطني الخطير ، .. أسأل الله أن يفتح القلوب والعقول للخير والهدى والحكمة القاهرة للغضب ، وأن يفتح لمصر وشعبها طريقا للائتلاف والتوحد من جديد .