هي لحظة تاريخية في مسيرة الديموقراطية التركية ، تلك التي صوت فيها 58% من الأتراك لصالح مجموعة من التعديلات الدستورية بلغت 26 تعديلا من دستور 1980 الذي وضعه العسكر الانقلابيون ، وعبر ذلك الدستور عن حزب الشعب العلماني وعن القوي الانقلابية العسكرية العلمانية وعن هيمنة المحكمة الدستورية العليا ومجلس القضاء الأعلي ، وهيمنة المجلس الأعلي للجامعات ، وتلك هي المفاصل العلمانية التي تسعي التعديلات لتحطيمها وعودة تركيا لبلد ديموقراطي لا تمييز فيه لفئة علي الأخري ، ولا توجد عقيدة شمولية ذات طابع فاشي تمثل مقدسا لا يمكن لأحد الاقتراب منه . كان من بين تلك التعديلات الموافقة علي محاكمة الانقلابيين ، كان ذلك نصا في الدستور أن لا يحاكم من قاموا بانقلاب عام 1980 ، وتحركت علي الفور دعاوي قضائية ضد من قاموا بالانقلاب وقبضوا علي مئات الآلاف من السياسيين والناشطين ومن عامة الشعب ،وأعدموا أكثر من خمسين شخصا ، وشعر كنعان أفرين الذي لا يزال حيا بالخطر فقال وهو يبكي إنه عاش ما يقرب من تسعين عاما أو يزيد قليلا وإنه سينهي حياته بالانتحار لو تمت محاكمته . وفي تعليقها علي نتائج ا لتصويت قالت صحيفة صباح التركية " تركيا تنظف عار الانقلاب " . من بين التعديلات الدستورية فقدان العسكر لحصانتهم بحيث يحاكمون أمام المحاكم الجنائية العادية لو ارتكبوا جرائم جنائية ضد مدنيين ، وكذلك فإن تركيبة المحكمة الدستورية العليا سيكون للحكومة والبرلمان دور في اختيار قضاتها ، نظام الاستثناء الفاشي للهيئات والمؤسسات وللعقائد لن يكون له موضع في نظام سياسي يخطو ناحية العقد الثاني في القرن الواحد والعشرين . يعلن أردوغان أنه سيضع دستورا جديدا للبلاد مختلف عن دستور 1980 البالي والمهترئ الذي يرفضه القانونيون والسسياسيون في تركيا ويعتبرونه وصمة عار علي جبين البلاد ، ويعتبر التصويت الكبير لصالح التعديلات الدستورية تفويضا لحزب العدالة والتنمية ولأردوغان للفوز في الانتخابات البرلمانية العام القادم ( يوليو ) والانتخابات الرئاسية العام أغسطس 2012 ، كما أنه نوع من إعادة الثقة لدي الحزب الذي تعرض لتراجع في التصويت لصالحه في الانتخابات البرلمانية الأخيرة عام 2009 ( 38% بعد أن كان 47% عام 2007 ) . نحن أمام ما يمكن أن نطلق عليه تعديلا لموازين القوي في النظام السياسي التركي الذي تأسس عام 1924 ليكون حاميا لنظام علماني متصلب ضد التعددية وحرية الإنسان ومعادي للتقدم والديموقراطية ، فبعد صراع دام مع القوي العلمانية تأتي تلك التعديلات لتنزع من يد تلك القوي مؤسسات مهمة هي القضاء والعسكر والجامعات وربما النقابات العمالية ، فأحد التعديلات يعطي للعمال إمكان تأسيس نقاباتهم المستقلة بعيدا عن النقابات الرسمية . أوروبا وأمريكا والعالم كله يشاهد ما يجري في تركيا ويري أنها قوة ديموقراطية صاعدة يتعاظم تأثيرها في المحيط الدولي لحد أن قدرتها علي التأثير تزداد عن كل دولة أوروبية علي حدة ، وعلي المستوي الاقتصادي فإن معدل النمو الاقتصادي التركي يبلغ 7% ويتراجع مستوي البطالة ويتراجع العجز في الميزانية ويتحقق فائض أولي فيها ، لحد الحديث عن اقتصاد يتعملق ، فوضع الاقتصاد التركي أفضل من وضع العديد من دول الاتحاد الأوروبي ، وتشير نتائج الاستطلاعات بين الأتراك أنهم يشعرون بالرغبة في الارتباط أكثر بدول العالم الإسلامي وليس بدول الاتحاد الأوروبي ، فالاقتصاد التركي يتعافي بينما اقتصاديات أوربا تواجه أزمات ، ومن ثم فحركة أوروبا مع العالم الإسلامي أفضل . يبلغ أردوغان من العمر 57 عاما فهو من مواليد عام 1954 ، ومن ثم فإنه من الجيل الوسيط للحركة الإسلامية في تركيا وعبر عن كارزميته الهادئة وهو عمدة اسطنبول ثم وهو يغادر حركة الملي جورش الحركة الأم للحركة الإسلامية التركية ويؤسس حزب العدالة والتنمية وهو حزب يصفه أردوغان بأنه شبيه بالأحزاب المسيحية في السياسة الأوروبية ومن ثم فهو يقدم وجها للإسلام يجمع بين الدين والعصر وبين ممارسة السياسة والالتزام بالعدل والنزاهة ، وبين رغبة جيل في الإجابة علي أسئلة وطنه من خلال الارتكاز علي أرضية إسلامية صلبة . في مسائل التاريخ والسياسة لا يمكن للمظالم أن تموت ، وهكذا توجه أردوغان إلي قبر عدنان مندريس ليزوره في إشارة رمزية إلي أن حكم العسكر الذي أطاح بعدنان مندريس وأعدمه عقابا له علي التحول بتركيا نحو نظام إنساني تعددي أعاد للإسلام اعتباره في مواجهة العلمانية – لن يفلت بدون عقاب ، هكذا قوي التاريخ تعمل وأردوغان أراد أن يعيد الاعتبار لمن وضع وأسس أول نظام ديموقراطي في تركيا وهو عدنان مندريس والحزب الديموقراطي الذي حكم تركيا من عام 1950-1960 .