بينما تتجه الدراسات الغربية إلي الإنسان باعتباره مركزا ، وإلي عقله باعتباره مرجعية نهائية ، فإن الإنسان في الدراسات الاجتماعية الإسلامية المستمدة من القرآن والسنة يتم النظر إليه باعتباره مسئولا يواجه اختبارا وابتلاء في هذه الدنيا وأن الدار الآخر هي مستقره النهائي . ورغم أن الدراسات الغربية التي حاولت أن تجعل الإنسان مركزا للعالم وبالغت في النظر إليه كمرجعية يمكن أن تستغني عن الوحي الإلهي ، فإنها من منظور نقدي وجدت أن هذا الإنسان يتم استلابه بفعل قوة النظام وهيمنته وهو ما عبر عنه ما كس فيبر عالم الاجتماع الأشهر بالقفص الحديدي ، وما عبر عنه المفكر الماركسي هربرت ما ركيوز بالإنسان ذو البعد الواحد ، أي الإنسان الذي يتم تدمير قدراته الخلاقة التي منحها الله له لصالح جزء صغير جدا في منظومة الإنتاج الصناعي القائمة علي فكرة التخصص وتقسيم العمل ، وهناك مدرسة كبيرة في العلوم الاجتماعية الغربية تتحدث عن الإنسان كفاعل اجتماعي ويحضرني تلك اللحظة التي أكتب فيها المقال المفكر الماركسي الفرنسي الكبير آلان تورين " في كتابه الرائع نقد الحداثة ، ما ذا يقول آلان تورين في كتابه ، يقول إن الحداثة قضت علي فاعلية الإنسان وقدرته علي أن يكون مسئولا بحق في ظل نظم مركبة يسيطر فيها رأس المال والعسكر ومشاريع الحرب والهيمنة الغربية ، لم يعد الإنسان فاعلا ومن هنا فإن كتابه يدور حول كيف يمكن للإنسان المعاصر في ظل حداثة غاشمة أن يعود ليكون فاعلا ومسئولا . هناك نقطة أخري يتحدث عنها " آلان تورين " وهي هامة في تقديري يقول إن الحداثة وما بعد ها وتلك المصطلحات التي تظهر علينا كل يوم حرمت الإنسان من المرجعية أي وجود نقطة ثابتة يمكنه التحاكم إليها إن تلاطمت وجوه الأشياء أمامه وتلونت واختلفت فلم يعد قادرا علي التمييز بين الحق والباطل والصواب والخطأ ، ومن ثم يقول لا حداثه بدون مرجعية أي نقطة ثابتة يرجع إليها الإنسان حين تضطرب الأمور أمامه . وهنا نعود مرة أخري إلي رمضان والإنسان ، لفت انتباهي أن كلمة الإنسان جاءت بشكل كثيف في جزء عم ، الجزء الأخير في القرآن الكريم ، وأن الآية المركزية في الجزء حول الإنسان هي قول الله تعالي" يأيها الإنسان إنك كادح إلي ربك كدحا فملاقيه " ، أي أن الإنسان في النهاية لا بد وأن يلقي ربه ويكون سؤال وحساب وجزاء ، وهنا فإن رمضان يأتي ليعزز قدرة الإنسان علي أن يكون عبدا لله ، لا تخدعه الزخارف من القول أو الأشكال أو الأفكار أو الأشياء . يأتي رمضان كل عام مرة أياما معدودات شهر كامل يقف فيها الإنسان مع نفسه ، يقول للماكينة والنظام القاسي الذي يواجهه وتفرضه ضرورات الحياة ، توقف أيها النظام ليكون الانتصار للمعني ويكون الانتصار لمسئولية الإنسان وإرادته ، مسئولية الإنسان في مواجهة المادية والاستهلاك بالامتناع عن الطعام والشراب ، مسئولية الإنسان في الاستعلاء بالإيمان والقيم بالكف عن الشهوات والأهواء والغرور ، مسئولية الإنسان في القيام والذكر وتعميق معني عبودية الإنسان لربه . من يريدون تحرير الإنسان في الغرب من قوة النظام وقهره وقفصه الحديدي واستعادة الإنسان لآدميته وحريته وقدرته علي الفعل يظلون في النهاية لا يعرفون فرقا بين اللاهوت أي الألوهية والناسوت أي العبودية ، هم مع تحرير الإنسان نعم ولكن بدون أفق واضح روحي يربط بين الإنسان وخالقه . بيد إن الإنسان في التصور الإسلامي تسمو إنسانيته وتسمو روحه وتتحقق حريته وتعمق مسئوليته حين تتعمق عبوديته لله وحين تقوي روابطه بخالقه ، وهنا يأتي رمضان ليعمق إنسانية الإنسان بتعميق عبوديته لربه ، الصوم يجعل الروح تسمو والجسد يذوب ويضعف لكي تشف النفس وترق وتعلو القيمة علي المادة . القرآن مائدة الصائم يقطف منها ثمار التوحيد والعقيدة وأزهار الأحكام والشريعة وثمار الأخلاق والتزكية ، صيام رمضان شئ مختلف عن صيام السنن طوال العام ، إنه شئ غريب يسري في حنايا الإنسان وثناياه فيجعله أكثر إنسانية وتحررا وأكثر شفافية وقدرة علي مواجهة المحن والمستقبل بلا قلق ولا توتر لأنه في النهاية يشعر بالفقر إلي ربه والحاجة إليه ، فخالقه هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو كل شئ قدير ، والدعاء لله كل هذه المنح الإلهية تعيد الإنسان إلي ذاته وتجعله يكتشف مدارج جديدة إلي ربه يسلكها لتقيه الغرور والفتن والخداع والزينة والزخرف ، رمضان يعيد الإنسان إلي ذاته وإلي ربه ليتحرر من قيود الدنيا وأسر السيرورة التي لا تقاوم رمضان يقف فيه الإنسان مع نفسه ليقول وعجلت إليك ربي لترضي