من المفترض أن تتمتع وزارة الخارجية بقدر معقول من الدبلوماسية وفهم الأمور وإدراك الواقع، لا أن يقفز علينا في كل مرة المتحدث باسمها حسام زكي متقمصا روح جنرال ليهدد ويتوعد كأنه يعيش في جزيرة منعزلة بقوانينها وحياتها وسياستها عن العالم الخارجي. أدري أنه منفذ للأوامر، لكني ما زلت أراهن على عراقة المدرسة الدبلوماسية في الخارجية المصرية وتفردها ورجالاتها الكبار عبر تاريخها. إذا كان السيد أحمد أبو الغيط يعتقد أن قائد السياسة الخارجية لابد أن يكون جنرالا مخيفا يهدد الآخرين، فهو إذاً لا يصلح لمكانه، بل لا يصلح أبدا كدبلوماسي، فما بالبال إذا كان المكان يمثل الخارجية المصرية؟! حسام زكي وزع بيانا على وسائل الإعلام بأن الخارجية استدعت سفراء دول الإتحاد الأوروبي في مقرها للإعلان عن رفض مصر لقيامهم بإصدار بيان حول التحقيقات الجارية في قضية المواطن خالد سعيد. البيان اعتبر التحرك الأوروبي مخالفة صريحة للأعراف الدبلوماسية، وتدخلا غير مقبول في الشأن المصري من سفارات أجنبية معتمدة في القاهرة. أولا لابد من الإشارة إلى أن بيان الخارجية الأمريكية كان أشد من البيان الأوروبي، لكنها "أمريكا" التي يعرف أبو الغيط أن زفرة غضب من وزيرة خارجيتها هيلاري كيلنتون تطيره من منصبه، كما فعلت "الأوف" التي أطلقتها مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية في التسعينيات، فأطاحت بعمرو موسى، الذي اعترف هو بذلك فيما بعد مستعيدا قول ياسر عرفات الذي كان حاضرا اللقاء وعلق على الفور بعد كلمات أولبرايت الحادة.. "موسى سيترك الخارجية" وقد حصل! أبو الغيط يجب ألا يستهين بالإتحاد الأوروبي، فهو قطعا ليس حركة حماس، التي خرج متحدثه حسام زكي قبل أيام قليلة ليهددها بما يمكن أن تفعله مصر، ويتهمها بالوقيعة بين مؤسساتها، بعد تصريح محمود الزهار بأن الخارجية المصرية ليست لها علاقة بملف حماس، وهو كلام لا أعرف لماذا يغضب أبا الغيط، وأين الوقيعة إذا كان العالم كله يعرف من هو الذي يمسك بذلك الملف، حتى أن الزهار نفسه عاد ليقول إن مصر أرادت ذلك، وإذا رغبت أن يكون حديثنا مع "خارجيتها" فلا مانع لدينا. منذ جاء أبوالغيط خرجت من يد "الخارجية" ملفات كثيرة، وحده يعرف السبب، هل هي إمكانياته الشخصية، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، أم أن قيادته السياسية رأت أن تجزئ كعكة سياستها الخارجية الفاشلة، فزادتها فشلا على فشل، حين تفرق دمها بين "القبائل"! المهم أن الدبلوماسي المبتدئ في وزارته يجب أن يكون عالما بأن بيان الإتحاد الأوروبي ليس تدخلا في شأن داخلي، فقد أعرب رؤساء بعثاته الدبلوماسية يوم الإثنين الماضي عن قلقهم إزاء ظروف وفاة خالد سعيد بعد التقارير المتضاربة عن الواقعة وما وصلهم من منظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية ومنها منظمة العفو، مرحبين بإعلان السلطات المصرية استعدادها لإجراء تحقيق قضائي، ويتطلعون إلى أن يجري بشكل شفاف غير منحاز بما يقود إلى إنهاء هذا التضارب بطريقة ذات مصداقية. هذه الجهة لابد أن يكون حادث تعذيب خالد في دائرة إهتمامها، فقد مات متأثرا بالضرب أثناء وقوعه في قبضة الأمن، وهو حادث تعذيب يتناقض مع الاتفاقيات التي أبرمتها مصر معها، وبموجبها قدم لها الإتحاد الأوروبي 50 مليون يورو لتحديث النظام القضائي وتعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان. ويقول مارك فرانكو رئيس مفوضية الإتحاد الأوروبي في القاهرة إن حقوق الإنسان والديمقراطية تعد من أولويات الإتحاد الأوروبي والبلدان الشريكة، بل إن باتريك رونو رئيس المفوضية في الأردن يعتبرها رأس الأولويات. في المقابل فإن مصر ملتزمة بمراجعة دورية عالمية لحقوق الإنسان، وقد أشار بيان الإتحاد الأوروبي إلى ذلك في بيانه، رغم أنها – أي مصر – قادت المجموعة العربية لمنع مجلس حقوق الإنسان بالأمم المتحدة في دورته السابقة من مناقشة ملف كل دولة على حدة، والسبب أنها ضمن 55 دولة أخرى تملك سجلا إنسانيا رديئا. تركيا مثلا لا تعتبر الإتحاد الأوروبي متدخلاً في شئونها عندما يقوم بمراجعة دقيقة لحقوق الإنسان والديمقراطية فيها حتى تفي بالالتزامات والمعايير التي تدعم جهودها للإنضمام لعضويته. مصر أيضا لا يمكنها أن تعيش معزولة عن العالم، ولم يعد هناك مجال ليغني أبو الغيط وقيادته السياسية "شعبي وأنا حر فيه، أغسله وأكويه"! [email protected]