تطفو على الساحة الحزبية بمصر هذه الأيام خلافات حزب الوفد، التى تتركز حول السجال الدائر بين رئيس الحزب، والنائب محمد عبدالعليم داود عضو مجلس الشعب عن دائرة فوه ومطوبس بكفر الشيخ، والخلاف بين الحزب والنائب المقصود ليس وليد اللحظة، بل وجد من يوم أن أصبح محمود أباظة رئيسا للحزب فى يناير 2006، حيث لم يكن عبدالعليم من مؤيديه، وهذا حقه خاصة أن حزب الوفد كما يشاع هو حزب الحريات، ولاغضاضة فى أن يعترض أحد أعضائه أو كل أعضائه على سياسات من يتولون رسم سياساته. ويهمنى هنا أن أقول كلمة حق فى حق النائب محمد عبدالعليم الذى لايعرفه الكثيرون، لا تعليقا على مايحدث، ولا توضيحا لما حدث، فلا شأن لى بما يحدث، ولكن لأن هذا الرجل يمثل حالة فريدة فى النزاهة والإلتزام، ويمثل فى زمننا هذا نادرة يجب الكلام عنها، والإشادة بها، فهو حالة خاصة ونموذجا للنائب المثالى النزيه الذى إذا عرفته على حقيقته وأحطت بسيرته، ولمست إنجازاته، قد تظن أننا نتحدث عن رجل من أطياف الخيال. نحن نلاحظ على مدى العقدين الماضيين، أن مجلس الشعب أصبح قبلة لرجال الأعمال، وأغلبهم لايعرفون شيئا عن العمل السياسى، ولايعيشون نبض الشارع ومعاناة المواطنين، وينفقون الملايين فى دعاياتهم حتى يفوزوا بمقعد تحت قبة المجلس التشريعى، لكى يتمتعون بحصانته وامتيازاته، ويستردوا ماأنفقوا أضعافا مضاعفة، حتى أصبح المجلس أشبه بنادى لرجال البيزنس، وفى عهدهم صدرت القوانين المجحفة التى تحمى مصالحهم، وأشهرها فى تقديرى قانون العمل رقم 12 لسنة 2003، الذى أضاع كافة الحقوق والمكاسب العمالية لعمال مصر، وعاد بهم إلى الوراء لزمن العبودية، حيث يقف هذا القانون مع صاحب العمل وسلب العامل كل حقوقه، وأعطى لصاحب العمل سلطات مطلقة لايوجد مثلها فى أى دولة فى العالم، حتى أن منظمة العمل الدولية انتقدت أكثر من مرة هذا القانون وهددت بفرض عقوبات دولية على مصر بسببه، ولكن لاحياة لمن تنادى، فأعضاء المجلس الذى سنه أغلبهم من أصحاب الأعمال، بمن فيهم من يندرج تحت فئة العمال والفلاحين. أصبح مجلس الشعب، ومجلس الشورى، ومجلس الوزراء، كمنتديات لرجال المال والأعمال، فضاعت حقوق السواد الأعظم من أبناء الشعب، فازداد الفقراء فقرا، وازداد الأغنياء غنى، وازداد الطغاة طغيانا، والأقوياء قوة، وبيعت مؤسسات البلد بثمن بخس، وانسلخت الدولة عن دورها الأساسى فى توفير الطعام والعلاج والسكن والتعليم والأمن لكل مواطنيها، فأصبح هناك ملايين يعيشون فى المقابر وعشش الصفيح والكرتون، وملايين تموت لعدم توافر الرعاية الصحية، وانتشرت الجريمة، وعمت الفوضى، وأضحت البلد تعيش حالة من الإنفلات الفوضوى الذى يهدد بانفجار لايعلم إلا الله عواقبه. وسط هذه الصور القاتمة، يظهر نموذجا رائعا لبرلمانى رائع، إنه محمد عبدالعليم داود، الذى وهب حياته للعمل العام، وخدمة البسطاء، دون أن ينتظر منهم كلمة شكر، أو حرف ثناء. عرفت محمد عبدالعليم منذ قرابة ربع قرن، فى جريدة الوفد فى عهد المرحوم مصطفى شردى، حيث تزاملنا سويا فى العمل الصحفى، وكنا فى العشرينات من عمرنا، وكان الزمن لازال فيه بقايا أمل، ويسمح لنا أن نحلم، حيث كان المواطن يستطيع أن يأكل لحما بأقل من سبعة جنيهات للكيلو، وطبق الكشرى بخمسة وعشرين قرشا، وسندوتش الفول بخمسة قروش، وزجاجة المياه الغازية بعشرة قروش. وجدت محمد عبدالعليم شابا يتمتع بطيبة ونقاء القرويين الحقيقية، على فطرته التى لم يغيرها أى مؤثر خارجى، وكان مندوب الوفد فى وزارة القوى العاملة، واتحاد عمال مصر، ومسئولا عن الملف العمالى بكل جهاته ومفرداته، لكنه لم يسع لنسج علاقات مع قيادات الوزارة أو أصحاب الأعمال، ولم يجعلهم مصدرا لأخباره، بل نزل للقاعدة العريضة من أعضاء النقابات والتحم بهم، وعاش مشاكلهم، فكان هو أبرز صحفى بين أبناء جيله يهتم بقضايا ومشاكل العمال، فهم القوة الدافعة لعجلة الإنتاج، وشارك فى جميع مؤتمرات العمل العربية والدولية، ومثل مصر فى مؤتمر الإتحاد المغربى الذى عقد فى الدارالبيضاء عام 1995، وفى مؤتمر العمل الدولى فى جنيف عامى 98 و 1999، وأيضا مثل مصر فى مناقشات أوضاع العمال بالأراضى المحتلة الذى عقد بمقر الأممالمتحدةبجنيف عام 2000، وكرمته منظمة العمل العربية، واعتبرته واحدا من المخلصين للقضايا العمالية فى مصر والوطن العربى. تعرض محمد عبدالعليم للإعتقال عام 1985، على إثر تسلقه أسوار معرض القاهرة الدولى حيث سارية علم اسرائيل فنزعه ثم أحرقه، وكان معه فى هذا الموقف مجدى أحمد حسين ومحمد عبدالقدوس، كما كان أول ضحايا القانون رقم 93 لسنة 1995 الشهير بقانون تقييد حرية الصحافة، حيث كان قد فجر قضية استيلاء أحد اقطاب الحزب الوطنى على عشرات الأفدنة من اراضى الآثار، بلغ ثمنها عام 1995 أكثر من 750 مليون جنيه، فأحيل لمحكمة الجنايات بتهمة السب والقذف، وحوكم بمقتضى هذا القانون المشبوه. يتمتع محمد عبدالعليم بحب جارف بين ابناء بلدته والبلاد المجاورة، ونزولا على رغبتهم رشح نفسه لمجلس الشعب فى دورة 2000/2005، وفاز من الجولة الأولى بأغلبية ساحقة، رغم أن إمكانياته كانت الأقل بين كل المرشحين خاصة مرشحى الحزب الوطنى الظاهرين والمستترين وراء صفة المستقل، ومنذ اليوم الأول لدخوله المجلس وهو يحرق نفسه فى سبيل مشاكل المواطنين بصفة عامة، ومشاكل أهل دائرته بصفة خاصة، وحقق لأهالى دائرته مالم يحققه لها كل النواب الذين سبقوه مجتمعون على مدى العقود الماضية، وقدم عشرات الإستجوابات للحكومة، والمئات من طلبات الإحاطة والبيانات العاجلة، وكلها تصب فى مصلحة الشعب الذى يعانى مرار العيش وغضاضته، فى الوقت الذى يزاح الستار كل فنرة عن تورط نواب الحزب الحاكم فى قضايا فساد وفضائح غير مسبوقة. وقد يكون الأمر حتى هنا عاديا، لكن الذى لايعلمه الجميع، أن محمد عبدالعليم داود والذى مازال نائبا بمجلس الشعب منذ عشر سنوات، هو العضو الوحيد الذى ليس لديه سيارة خاصة، ويستعين فى تنقلاته بسيارة مستأجرة، وأحيانا أتولى أنا مساعدته بسيارتى الخاصة فى تنقلاته، ورغم أن محمد عبدالعليم داود من أسرة عريقة وكبيرة، حتى أن بلدته "كفر الدوايدة" تنسب إلى عائلته، لكنه يعيش فى شقة متواضعة للغاية فى مدينة الشباب بفيصل تعاقد عليها قبل زواجه منذ حوالى 13 سنة، وحتى الآن لايزال عاجزا عن دفع أقساطها، لدرجة أن الشركة المالكة أنذرته أكثر من مرة بالطرد، ويباشر أعماله فى مكتب صغير للغاية يعجز أيضا عن دفع إيجاره الشهرى، وليس له من دخل سوى المكافأة التى يحصل عليها من المجلس، حيث أن مرتبه من جريدة الوفد التى هو واحد من مؤسسيها متوقف، وليس لديه وقت ليباشر عمله الصحفى فى إحدى الصحف أو الفضائيات الخاصة ليتقاضى راتبا ضخما مثل غيره الأقل منه كفاءة. والذى قد يذهلك عزيزى القارىء أن هذا النائب يأتيه يوميا العشرات من أهالى دائرته ويقابلهم بنفسه، وبعضهم يشكو له شدة الفاقة، فيجود عليهم بالقليل الذى فى جيبه، فالمكافأة القليلة التى يتقاضاها من مجلس الشعب، والتى هى مصدر دخله الوحيد حاليا، يذهب أكثرها فى شكل مساعدات للفقراء والمحتاجين، ويقدمهم على حاجات بيته وأبنائه. فى شارع مجلس الشعب، سوف تجد محمد عبدالعليم بنفسه يقف بين المعتصمين وأصحاب الحاجات، يستمع لهم، ويدون حاجاتهم، ويتولى بحثها ومساعدة من يحتاج، تجده يقف مع مواطن من بنى سويف، وآخر من المنيا، وثالث من بورسعيد، وهكذا، فالكل عنده مواطنون لافرق بين أهالى دائرته وغيرهم من أبناء مصر. محمد عبدالعليم يتلقى دعوات لحضور احتفالات وعزومات مع علية القوم فلا يأبه بها، لكنه ينهض من نومه فى زمهرير برد ليل الشتاء ويقطع مئات الكيلومترات ليلبى حاجة مواطن نزلت به نازلة، ويواسى من حلت به نوازل الحكومة، كانهيار منزل، أو غرق مركب، أو حادث قطار ... إلخ. محمد عبدالعليم داود استصدر آلاف من قرارات العلاج للآلاف من أهالى دائرته وغيرهم من مواطنى مصر ضحايا حكومات البيزنس، لكن الذى لايعلمه أحد أنه يعانى من إلتهاب كبدى فيروسى نشط، ويعانى متاعب حرجة فى العمود الفقرى، لدرجة أنه يعجز أحيانا عن الوقوف، لكنه يقدم مصلحة الغير على حاجته الخاصة. كنت أول من التقى المرحوم حسين الشافعى نائب رئيس الجمهورية الأسبق، ونشرت مذكراته فى عقد الثمانينيات بصحيفة لندنية، ثم صدرت فى كتاب عن دارى نشر، وأذكر أن حسين الشافعى كان يردد دائما أنه باع حديقة منزله عام 1981 لكى يتمكن من تزويج ابنته، وهو كان واحدا من أعضاء مجلس قيادة الثورة الذين حكموا مصر قرابة عقدين من الزمن، وكذلك الوزير حسب الله الكفراوى الذى شغل منصب وزير الإسكان قرابة 15 سنة، وكان قبلها محافظا لدمياط، خرج من الوزارة عام 1993 ولايملك سيارة خاصة، وتستدعى الذاكرة أسماء أخرى من الأجيال السابقة كأمثلة نادرة للشرف والنزاهة، مثل: صدقى سليمان وزير السد العالى، ويوسف صبرى أبوطالب أحد القادة البارزين فى حرب أكتوبر 1973 ثم محافظ القاهرة فوزير الدفاع، عاش حياته فى شقة مستأجرة رغم عظم المناصب التى تولاها، وانتهى به المطاف عضوا معينا فى مجلس الشورى، رآه أحد أصدقائى ذات يوم خارجا من بوابة المجلس فى شارع قصر العينى يستوقف تاكسيا يعود به لمنزله. إنها أمثلة لأناس وهبوا حياتهم للوطن، وعفوا أيديهم، وبقيت سيرتهم أشبه بالأساطير قياسا على مانراه اليوم، كذلك محمد عبدالعليم داود يضاف بكل جدارة لتلك القائمة التى باتت فى طريقها للإندثار. [email protected]