من الموضوعات التى أثرى فيها العلامة د.عبد الوهاب المسيرى الفكر الإنساني موضوع المرأة. وأصدر فى ذلك كتابًا من أهم الكتب التى تناولت مسألة تحرير المرأة وهو كتاب (قضية المرأة بين التحرير والتمركز حول الأنثى) وجملة التمركز حول الأنثى من الجمل التى نحتها الدكتور المسيرى كغيرها من الجمل التى تعد من أدق التعبيرات الفكرية والثقافية.. وما كان لفيلسوف الإنسان العطوف أن تغيب عن عطاياه العديدة.. قضية إنسانية بحجم قضية المرأة وهى القضية التى شغلت الوعي الإنسانى طويلًا ومازالت.. ولعل الوثيقة الأخيرة التى صدرت عن الأممالمتحدة إحدى تجلياتها المستمرة. لكن الأمر يتجاوز تلك الوثيقة التى رفضها الأزهر الشريف.. امتدادًا لمواقفه التأصيلية الثابتة من هذه القضية ونتذكر جميعًا وثيقة الأزهر حول المرأة التى صدرت عام 1995م ردًا على ما أثير وقتها فى مؤتمر بكين الشهير موضحًا الرأى حول قضية المساواة بين الرجل والمرأة فى المنظور الإسلامى والأحكام المتعلقة بها. والكتاب يعد مرجعًا مهمًا للنظر فى هذه المسألة من الناحية الشرعية. لا يمكن بطبيعة الحال أن ننسى موسوعة الراحل الكبير عبد الحليم أبو شقة (تحرير المرأة فى عصر الرسالة) وهي الموسوعة التي أصلت لفكرة التحرير فى الوعى بقضية المرأة إسلاميًا.. امتدادًا لفكرة التحرير الكبرى للإنسان التى جاءت بها الرسالة الخاتمة.. والتى تمثلت فى حرية المشيئة الإنسانية. رشيد رضا أحد أهم رموز مدرسة الإحياء والتجديد الإسلامي له كتاب عظيم أيضًا بعنوان (حقوق النساء فى الإسلام وحظهن من الإصلاح المحمدي العام) يرى فيه أن الله سبحانه وتعالى أثبت للمؤمنات الولاية المطلقة مع المؤمنين فيدخل فيها ولاية الأخوة والمودة والتعاون المالي والاجتماعي وولاية النصرة الحربية والسياسية. كتاب الدكتور المسيري بدوره يعد مرجعًا مهمًا للنظر في هذه المسألة من الناحية الفكرية والإنسانية.. والدكتور المسيري مع العلامة على عزت بيجوفيتش يعتبرا أهم ناقدين للحضارة الغربية من المنظور الفكري الإنسانى نقدًا قائمًا على قواعد إسلامية صلبة ناهيك عن فهم عميق الأغوار لمكونات الحضارة الغربية وهي الحضارة التي تعتبر نفسها مركزية في الفكر الحضاري عبر رحلة الإنسانية الطويلة. هذه المركزية ما عادت كذلك لا في ما يتعلق بموضوع المرأة ولا في غير موضوع المرأة.. المريب في الوثيقة الأخيرة هو العنوان الذى اتخذته (نبذ العنف ضد المرأة) والتي حاولت أن تمرر تحته مفاهيم خاطئة عن المساواة وعن حقوق التوجهات الجنسية.. لاحظ التعبير ومدى الخبث الذي يحمله رغم أنه في تبسيط شديد يعنى الشذوذ عن الطبيعة الإنسانية في المفهوم الأخلاقي والاجتماعي. الدكتور المسيري في كتابه.. يفرق بين حركة (تحرير المرأة) وحركة (التمركز حول المرأة) ويرى أن الأولى تنطلق من مفهوم الإنسانية المشتركة (الواحدية الإنسانية) بينما الثانية تنطلق من فكرة الصراع المستمر ومادية الإنسان. أما الثانية فمتحررة من التاريخ.. منفتحة على التجريب المستمر فلا تستمد مرجعيتها من التاريخ الإنساني لأنها ترى فيه ظلمًا على الأنثى. مفهوم التمركز حول الأنثى خارج من أرضية الثقافة الغربية التي تعامل الإنسان كمادة يمكن إعادة صياغتها على نحو جديد.. مختلف.. مرجعيته الوحيدة هو التغير والتجريب. لذا تدافع هذه الثقافة عن (الشواذ جنسيًا وحقوق الحيوانات والعراة والمخدرات وفقدان الوعي وحق الانتحار وعن كل ما يطرأ وما لا يطرأ على بال) هذه الثقافة تركز على حقوق الفرد لا المجتمع.. وكأن هذا الفرد كائن بسيط غير اجتماعي منقطع عن أي سياق تاريخي لا تربطه علاقات (بأسرة أو مجتمع أو دولة أو مرجعية تاريخية أو أخلاقية) هو مجموعة من الحاجات (المادية) البسيطة المجردة التي تحددها الاحتكارات وشركات الإعلانات والأزياء وصناعات اللذة والإباحية. الفرق بين الحركتين كما يقول المسيرى ...أن حركة تحرير المرأة تدافع عن حقوق المرأة في إطار الإنسانية المشتركة وانتماء الإنسان لمجتمعه وحضارته باستقلال عن المادة وتعامل المرأة ككائن اجتماعي ينشد العدالة للجميع سياسيا واقتصاديا واجتماعيا. كما أنها تدرك الفوارق بين الجنسين ولكنها تسعى إلى عدم تحولها إلى مبررات ظلم اجتماعي.. في حين أن حركة التمركز على الأنثى تنكر وجود هذه الفروق.كما تقدم خطابا يوحي بأنه لا توجد إنسانية مشتركة بين الرجل والمرأة. حيث المرأة متمركزة حول ذاتها.. تشير إلى ذاتها.. مكتفية بذاتها ..تود اكتشاف ذاتها وتحقيقها خارج أي إطار اجتماعي.. في حالة صراع كوني أزلي مع الرجل المتمركز حول ذاته... القضية هنا ليست دفاعًا عن حقوق اجتماعية وسياسية وإنما بحث عن الهوية.. ليس الأمر نشدًا للعدالة وإنما تكريس لفكرة الصراع بين جنسين متمركزين على الذات. وفي إطار هذه الرؤية تبحث دعوات التمركز على الأنثى عن تاريخ الأنثى وتذهب إلى وجود معارك في الزمن القديم تحولت المجتمعات إثرها من مجتمعات أمومية أنثوية ونظام اجتماعي أنثوي إلى مجتمعات بطريركية ذكورية وإلى أن التاريخ أصبح يسرد من وجهة نظر ذكورية.. يقصي الإناث. وهكذا تبرز الدعوة إلى نبذ هذا التاريخ والبدء بالتجريب المستمر وإعادة صياغة كل شيء: التاريخ واللغة والرموز بل الطبيعة البشرية ذاتها كما تحققت عبر التاريخ وكما تبدت في مؤسسات تاريخية.. ويرى المسيري أن هذا لا يعتبر برنامجًا إصلاحيًا وإنما سطحيًا لا يحل أي مشكلة. كل ما في الأمر هو نظرة واحدية متمركزة على الأنثى تريد التشديد على استقلال المرأة عن الرجل وعن أي سياق اجتماعي تاريخي وهو الأمر الذي وصل في تطرفه إلى تمجيد(السحاق)حيث المرأة لا تحتاج إلى الرجل.. مستبعدة هذا الشريك في الإنسانية المشتركة المسيري يرى فى هذا النطاق أن الأجدى هو البدء من حقوق الأسرة ثم الانطلاق منها لحقوق الأفراد المنتمين إليها. ويدعو إلى إعادة الاعتبار لدور المرأة في تربية الأطفال بوصفة وظيفة إنسانية عالية القيمة دون النظر إلى الاعتبارات المادية الصرفة. كما يؤكد ضرورة النظر إلى التجربة الغربية بعمق وقراءة الدراسات والمؤشرات التي توضح أثر ابتعاد المرأة عن الأسرة على المجتمعات الغربية ماديًا ونفسيًا واجتماعيًا. وهو لا يدعو إلى حرمان المرأة من العمل وإنما حل المشكلة وفق نظرتنا نحن وفق ما نمتلك من رؤية ومرجعية. وأخيرًا علينا أن نتذكر دائمًا أن المجتمع المسلم هو مجتمع يستجيب لدعوة الله أولًا وآخر (يا أيها الذين امنوا استجيبوا لله وللرسول...) وهو قائم بأفكار وأخلاقيات وآداب وشرائع.. كلها تقول بها الفطرة وكلها ينادى بها العقل.