الفارق بين الفكرة العلمانية وبين المشروع الإسلامي هو الفارق بين الظلام وبين النور، فالغريب أن دعاة "العلمنة" يستلهمون أفكارهم من التجربة التركية التى دعا لها ونفذها مصطفى كمال أتاتورك فى عشرينات القرن الماضي، أما مؤيدو المشروع الإسلامي فينظرون بعين الأمل للتجربة التركية الحديثة التي قادها حزب العدالة والتنمية ذو التوجه الإسلامي بزعامة رجب طيب أردوغان الذى تجاهل حتى مصافحة رئيس إسرائيل على مرأى ومسمع كل العالم، مع خلطة من تجارب بعض الدول فى الالتزام السلوكي والأخلاقي. الفارق كبير بين دعاة نهج أتاتورك، وطالبي نهضة أردوغان، فالاتجاه الأول هو من يجرنا لعصور الظلام، وتناسى دعاته كيف أسقط اليهود الخلافة الإسلامية والدولة العثمانية وتركيا معها بعلاقة وثيقة بين أتاتورك وهرتزل مؤسس الدولة الصهيونية، وأغفلوا كيف سقطت تركيا لعقود طويلة فى براثن صراعات سياسية وفكرية وعقائدية وثقافية بسبب النهج العلماني الرجعي، أما طالبي نهضة تركيا فهم ينظرون إلى جهود نجم الدين أربكان فى تربية جيل سياسي يقود تركيا والعالم، وبالتالي تذهب مخيلاتهم للاستعانة بتجربة حديثة من حيث انتهت تركيا سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا، وما آلت له الحريات هناك، وهذا هو الخلاف الكبير بين التقدم وبين الرجعية. ربما يكون الدستور وضع حدًا ل"علمنة" الدولة؛ ولكن التيار الليبرالي والعلماني يقودان حملة كبيرة من أجل اللعب فى مواده وتغيير مبادئه، ولذلك هم يقودون حملة شرسة ضد الرئاسة وجماعة الإسلام السياسي لإبادة المواد التي تحول بينهم وبين فكر أتاتورك وهرتزل، بينما تسير الأحزاب الإسلامية فى قالب سياسي تنادى به الأمم الديمقراطية وتخطط لتنافسية تشهدها وتعيشها دول تنعم بالحريات. هذه الفوارق تقودنا أيضًا لأفكار وميول جبهة الإنقاذ التى تنادى بأفكار عاشتها مصر، وتجارب عانينا من ويلاتها سواء كان نظام الحكم جمهوريًا أو ملكيًا، كان الحاكم عسكريًا أو ارستقراطيًا؛ لكنهم يرفضون أن يكون الحاكم متدينًا، لأنه سيهدد طموحاتهم المتمثلة فى أفكار هرتزل وعنف شارون، وتهويد بيريز، فعمرو موسى تبادل الأحضان الدافئة مع بيريز فى وقت قاطعه أردوغان، والبرادعي يدعو لفكر "خنزيري" يخلق من المصري المسلم الحر ديوثًا، أما صباحي فيدعو إلى النهج الناصري الذي عانى منه الشعب فى الستينات حتى وصل الأمر لأن يتجسس الزوج على زوجته والأم على ابنها لصالح النظام وقتها. ربما نختلف مع الإخوان أو مع الرئيس فى طريقة إدارة الدولة، لكن المتفق عليه أن هناك حريات نتمتع بها وأن طريق الديمقراطية بدت معالمه تتضح، وأن الهوية الإسلامية "السنية" باتت صبغة أبدية للبلاد، إذا كان هذا لا يعجب المعارضة "العلمانية" فيمكن لها أن تتبع سبل سياسية لإظهار قوتها سواء فى انتخابات أو فى مشاركة أو تمثيل نخبوي في الحكومة عبر الكفاءات التكنوقراط، لكنها اتخذت منحى آخر وهو الدعوة للفحش والفجور، فتارة يدعونا إعلامي كبير لعدم الدفاع عن الرسول لأنه ليس مصريًا، وآخر يسب الدين على الهواء، ومخرج يسمح لبنته بالإغراء السينمائي، ومنتج يوافق على ممارسة أخته للجنس قبل زواجها، ومخرجة تطالب بحقوق للشواذ، وكاتبة تدعو بمنح الحريات للساديات، وقانوني كبير يتهجم على الله في مسألة الاستفتاء، وأديبة تهدد بطرد ابنتها لو ارتدت الحجاب. هذه هي الفوارق بين العلمانية المعارضة، وبين الإسلام "النظامي" فالدين يدعو للعفة والكرامة والعدالة والحق وعدم الجور على الحقوق وتقدير الصغير وتبجيل الكبير، وفى السياسة يستمع للآخر ويمنح الحرية للأقلية ويعمل برأي الأغلبية، أليست هذه الديمقراطية التي ينادون بها. الإسلاميون قرروا المضي من حيث انتهت تجربة الإسلام السياسي في تركيا، أما العلمانيون يريدون بنا العودة للخلف إلى ما يقرب من قرن لتكرار تجربة فاشلة خطط لها الصهاينة ونفذها عملاؤهم.. هذه هو الفارق بين الرجعية والحداثة في التجربة التركية التي يحدثنا الطرفين عنها، وعلى المواطن أن يمعن النظر ويدبر العقل ويمهل القلب ويحكم بين التجربتين دينيًا وسياسيًا ثم يختار لأيهما يميل في الانتخابات المقبلة. [email protected]