«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من استنبول إلى القاهرة الطريق من هنا
نشر في مصر الجديدة يوم 19 - 06 - 2011

دق الضابط الاستخباراتي الكبير الأرض بقدمه تحية لرئيس الجمهورية، وسلمه ملفاً هاماً وسرياً للغاية، فبدت على وجه الرئيس علامات التعجب وهو يتصفح الملف الذي يحكي قصة مهندس شاب يدعى "نجم الدين أربكان" تقدم بطلب لتشكيل حزب سياسي بدا في برنامجه "لهجة إسلامية" لأول مرة منذ ما يقرب من خمسين عاماً .. ثم وسط دهشة الحضور قال الرئيس: "اسمحوا له بتشكيل الحزب" .. رد الضابط في دهشة: "إنه حزب إسلامي سيدي" .. قال الرئيس في لهجة الواثق: "إنها فرصتنا لنختبر مدى نجاعة جهودنا طوال السنوات الخمسين الماضية، سنعلم من خلال هذا الأربكان إن كان ما يزال هناك أي أثر
للإسلام في تركيا أم أننا نجحنا في علمنة مجتمعنا والقضاء على كل آثار الرجعية والتخلف"
وهكذا ... أنشأ أربكان "حزب النظام الوطني" عام 1970 فكان أول تنظيم سياسي ذي هوية إسلامية تعرفه الدولة التركية الحديثة منذ زوال الخلافة عام 1924م، لكنه لم يصمد سوى تسعة أشهر حتى تم حله بقرار قضائي من المحكمة الدستورية بعد إنذار من قائد الجيش "محسن باتور" .. فقام أربكان بتأسيس "حزب السلامة الوطني" عام 1972م الذي أفلت هذه المرة من غضب الجيش ليشارك بالانتخابات العامة ويفوز بخمسين مقعداً كانت كافية له ليشارك في مطلع عام 1974م في حكومة ائتلافية مع حزب الشعب الجمهوري الذي أسسه أتاتورك ليرعى المبادئ العلمانية.
دعونا نلحظ بعض علامات الطريق خلال رحلتنا هذه ... واسمحوا لي أن لا تكون علامات سياسية فهي واضحة الدلالة، بل سأتوقف معكم في علامات تربوية قيمية ... أكثر عمقاً وأكبر فائدة ...
علامة الطريق الأولى: لا يوجد شيء اسمه المستحيل .. خاصة إذا تعلق الأمر بفكرة آمن أصحابها بها إيماناً عميقاً، وفهموها فهماً دقيقاً، وعملوا في سبيلها بإخلاص وتجرد وعزيمة لا تعرف الفتور .. وقتها ستدير يد الله تعالى المعركة نحو النجاح.
حدثني أستاذنا الكاتب الكبير "مصطفى الطحان" عن قصة تعرفه على "أربكان" فقال: "سمعنا عن رجل يتحدث عن الإسلام في تركيا، وكان هذا في حد ذاته مثار تعجب وإعجاب في الوقت نفسه، فكلفني الإخوان باستطلاع الأمر بطبيعة دراستي في تركيا وإتقاني للغتها، فذهبت إليه والتقيته بعد صلاة الفجر، واستمعت إليه فإذا هو نهج الإخوان والحركات الإسلامية الوسطية نفسه: وسطية الفكرة، وشمولية الإسلام، ونبذ كامل للعنف، ومعرفة بمعالم الطريق الطويل".
تولى أربكان منصب نائب رئيس الوزراء وشارك رئيس الحكومة "بولنت أجاويد" في اتخاذ قرار الدفاع عن المسلمين في قبرص في نفس العام .. ثم قدم بعد تشكيل الحكومة بقليل مشروع قرار للبرلمان بتحريم الماسونية في تركيا وإغلاق محافلها، وأسهم في تطوير العلاقات مع العالم العربي، وأظهر أكثر من موقف مؤيد صراحة للشعب الفلسطيني ومعاد لإسرائيل .. وحتى بعد خروجه من الحكومة قدم حزب أربكان مشروع قانون إلى مجلس النواب في عام 1980م يدعو الحكومة التركية إلى قطع علاقاتها مع إسرائيل، وأتبع ذلك مباشرة بتنظيم مظاهرة ضخمة ضد القرار الإسرائيلي بضم مدينة القدس، كانت
المظاهرة من أضخم ما شهدته تركيا في تاريخها المعاصر، الأمر الذي اعتبر استفتاء على شعبية التيار الإسلامي ... فحققت تجربة أربكان الأولى في الحكم مكاسب كبيرة للتيار الإسلامي من أهمها الاعتراف بهذا التيار وأهميته في الساحة السياسية.
علامة الطريق الثانية: مهما كانت الظروف .. فإن صحَّة الفكرة والثبات عليها أهم عوامل النجاح .. فقط اعمل بإخلاص لفكرة صحيحة، وثابر على تحقيق فكرتك مع بعض المرونة التي تقتضيها المصلحة ويتطلبها الموقف .. لتضمن النجاح.
بعد بضعة أيام تزعم قائد الجيش "كنعان إيفرين" انقلاباً عسكرياً أطاح بالائتلاف الحاكم، وبدأ سلسلة إجراءات كان من بينها إعادة القوة للتيار العلماني ومن ذلك تشكيل مجلس الأمن القومي وتعطيل الدستور وحل الأحزاب واعتقال الناشطين الإسلاميين واليساريين .. فأمضى أربكان ثلاث سنوات في السجن ثم خرج في إطار موجة انفتاح على الحريات في عهد حكومة "أوزال" ... قال الأستاذ "مصطفى الطحان": "التقيته بعد خروجه من السجن فلم يحدثنا عن شيء من الماضي، بل أحضر كراساً وبدأ يشرح منه فكرته لإنشاء حزب جديد".
أسس أربكان عام 1983م "حزب الرفاه الوطني" وشارك في انتخابات نفس العام لكنه لم يحصل سوى على 1.5% من الأصوات، فلم ييأس بل تابع طريقه لترتفع نسبته تدريجياً حتى أفلح في الفوز بالمركز الأول في انتخابات عام 1996 ليترأس حكومة ائتلافية مع حزب الطريق القويم برئاسة "تانسو تشيللر".
علامة الطريق الثالثة: لا يأس مع الحياة ... مهما كثرت العقبات، وعظمت المصاعب، وتكالبت الدنيا كلها على أصحاب الرسالات .. لا يتسرب اليأس أبداً إلى نفوسهم .. فهم لا يعرفون إلا العمل والأمل.
قدمت حكومة أربكان أول ميزانية متوازنة في تاريخ تركيا، ولم يكتف بذلك بل كان أول قراراته زيادة رواتب العاملين بالدولة من المدنيين والعسكريين 200-300% ... وحين سألناه بعد ذلك من أين جاء بالمال تبسم وقال: " فقط سددت ثقوب الفساد التي يتسرب منها .. لقد وجدت للدولة عشرات الحسابات في البنوك يتسرب منها مليارات الدولارات، فأغلقتها كلها إلا بضعة حسابات أشرف عليها وبعض أعواني .. فوفرت بهذه الخطوة عشرة مليارات من الدولارات كان يلتهمها الفساد".
خلال أقل من عام قضاه أربكان رئيسا للحكومة التركية، سعى إلى الانفتاح بقوة على العالم الإسلامي، حتى بدا وكأنه يريد استعادة دور تركيا الإسلامي القيادي، فأعلن عن تشكيل مجموعة الثماني الإسلامية التي تضم إلى جانب تركيا أكبر سبع دول إسلامية: إيران وباكستان وإندونيسيا ومصر ونيجيريا وبنغلاديش وماليزيا .. وعقد مؤتمراً عالمياً يضم قيادات العمل الإسلامي، وباتت تركيا على أعتاب مرحلة جديدة تستعيد فيها مكانتها الإسلامية.
علامة الطريق الرابعة: أصحاب الرسالات يصنعون الإنجازات الكبيرة ... فلا يكتفون بوضيع المكاسب، ودنايا المقاصد، بل يتطلعون إلى معالي الأمور ويسعون إليها مهما كانت العقبات .. ويصلون إليها بعون الله وحده.
لم يتحمل النظام العلماني طويلاً نجاح تجربة أربكان الإسلامية، فتحالف العسكر حماة العلمانية مع رجال الأعمال الذين تضرروا كثيراً بالقضاء على الفساد، فقام الجنرالات بانقلاب من نوع جديد، إذ قدموا إلى أربكان مجموعة طلبات يعرفون استحالة قبوله لها وتتضمن ما وصفوه بمكافحة الرجعية وتستهدف وقف كل مظاهر النشاط الإسلامي في البلاد سياسياً وتعليمياً وحتى عبادياً .. وتحرك نواب البرلمان محاولين إسقاط الحكومة، وسرت أقاويل شبه مؤكدة أن أموالاً كثيرة دفعت من رجال الأعمال للنواب للتصويت بإسقاط الحكومة .. فاضطر أربكان إلى الاستقالة من منصبه
لمنع تطور الأحداث إلى انقلاب عسكري فعلي.
تم حظر حزب الرفاه عام 1998م وأحيل أربكان إلى القضاء بتهم مختلفة منها انتهاك مواثيق علمانية الدولة، فسجن ومنع من مزاولة النشاط السياسي لخمس سنوات .. ودخل معه السجن شاب صغير صعد به "حزب الرفاه" إلى موقع "عمدة استنبول" هو "رجب طيب أردوغان" ... كانت تهمة أردوغان التحريض على الكراهية الدينية فتسببت في سجنه ومنعه من العمل في الوظائف الحكومية ومنها الترشيح للانتخابات العامة بسبب اقتباسه أبياتاً من شعر تركي أثناء خطاب جماهيري يقول فيه:
مساجدنا ثكناتنا
قبابنا خوذاتنا
مآذننا حرابنا
والمصلون جنودنا
هذا الجيش المقدس يحرس ديننا
علامة الطريق الخامسة: كما لا يتوقف أصحاب المصالح عن مطاردة المصلحين، لا يتوقف أصحاب الرسالات عن العمل لخدمة أوطانهم، ويدفعون ثمن ذلك بنفس راضية، وقلوب صافية .. كثيراً ما تبهر عدوهم.
لم يغادر أربكان الساحة السياسية فأسس "حزب الفضيلة" بزعامة أحد معاونيه ، لكن هذا الحزب تعرض للحظر أيضا في عام 2000م ... وقد أحدثت هذه الموجة من الهجوم على العمل الإسلامي التركي بقيادة أربكان هزة شديدة الوقع في المجتمع بأسره، وفي داخل حزب أربكان نفسه، تطورت بمرور الأيام حتى أدت إلى انشقاق كبير في صفوف الحزب ليخرج "رجب طيب أردوغان" مع عدد كبير من الأعضاء الفاعلين منهم "عبد الله غول" ويقوموا بتأسيس "حزب العدالة والتنمية" عام 2001.
سألت الأستاذ "مصطفى الطحان" عن ردة فعل "أربكان" تجاه هذا الانشقاق فقال: "أثر فيه نفسياً تأثيراً كبيراً ربما أعمق وأشمل من تأثيره السياسي، وعكف فترة يدرس أسباب هذه المحنة الجديدة، ثم أسرَّ إليَّ أنه أدرك خطأه الآن، فقد كان عليه أن يهتم بالتربية للصف حوله قبل أن يقدمهم إلى مواقع القيادة، وقد أدرك – متأخراً – أن التربية ركن ركين من العمل الإسلامي لا غنى له عنه فبدأ على الفور في وضع ملامح برنامج تربوي لمن بقي حوله من القيادات والشباب".
علامة الطريق السادسة: تربية النواة الصلبة للحركة الإسلامية ضرورة لا غنى عنها .. فهي تضمن استمرار الفكرة، وتماسك الصف، ومتانة الأخوة، واستعصاء الحركة الإسلامية على محاولات أعدائها القضاء عليها.
منذ البداية أراد أردوغان أن يدفع عن نفسه أي شبهة باستمرار الصلة الأيديولوجية مع أربكان وتياره الإسلامي الذي أغضب المؤسسات العلمانية مرات عدة وأغضب معها الغرب وإسرائيل بالطبع، فأعلن أن "حزب العدالة والتنمية" سيحافظ على أسس النظام الجمهوري ولن يدخل في مماحكات مع القوات المسلحة التركية .. وقال: "سنتبع سياسة واضحة ونشطة من أجل الوصول إلى الهدف الذي رسمه أتاتورك لإقامة المجتمع المتحضر والمعاصر في إطار القيم الإسلامية التي يؤمن بها 99% من مواطني تركيا" ... لقد بدا واضحاً أن المنشقين عن أربكان قد رتبوا أمورهم مع خصومه تمهيداً لتوليهم
دفة الأمور.
تعلم أردوغان من تجاربه السابقة، وأدرك أن أعداءه يتربصون به حتى وإن تفاهم معهم، وتعلم من تجربة سجنه أن يتحدث بلغة وسطية يفهمها الشعب، واستخدم كل مهاراته التي تعلمها في مدرسة "أربكان" في بناء قاعدة شعبية عريضة لحزبه، تستند إلى ما أرساه أستاذه "أربكان" طوال أربعين عاماً من الجهاد السياسي .. فكان له ما أراد .. وكان عليه أن يدفع الثمن.
خاض حزب العدالة والتنمية الانتخابات التشريعية عام 2002 وحصل على 363 نائبا مشكلاً بذلك أغلبية ساحقة، لكن أردوغان لم يستطع ترأس حكومته بسبب تبعات سجنه وقام بتلك المهمة "عبد الله جول" حتى تمكن أردوغان في مارس عام 2003 من تولي رئاسة الحكومة بعد إسقاط الحكم عنه.
ومن جديد يعود أربكان ليؤسس بعد انتهاء مدة الحظر في عام 2003م "حزب السعادة"، لكن خصومه من العلمانيين تربصوا به ليجري اعتقاله ومحاكمته في نفس العام، وحكم على الرجل بسنتين سجناً – في ظل حكومة تلامذته - وكان يبلغ من العمر وقتها 77 عاما، وبقي في السجن حتى أصدر تلميذه الرئيس التركي "عبد الله غول" عفواً رئاسياً عنه في 18 أغسطس 2008م بسبب تدهور حالته الصحية .. ربما كان هذا جزءاً من الثمن الذي كان على "حزب العدالة والتنمية" أن يدفعه.
علامة الطريق السابعة: مهما بدا الأمر مغرياً سياسياً فإن الانشقاق عن الحركة الإسلامية والتنكر للجذور الإسلامية والتناسي للروابط الأخوية يضر صاحبه أول ما يضر ... وسيظل يدفع الثمن حتى يرتوي أعداء الحركة الإسلامية .. وهم لا يرتون.
بعد توليه رئاسة الحكومة عمل أردوغان على الاستقرار والأمن السياسي والاقتصادي والاجتماعي في تركيا، وتصالح مع الأرمن بعد عداء تاريخي، وكذلك فعل مع اليونان، وفتح جسوراً مع أذربيجان وبقية الجمهوريات السوفيتية السابقة، وأرسى تعاونا مع العراق وسوريا وفتح الحدود مع عدة دول عربية ورفع تأشيرة الدخول، وفتح أبواباً اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية مع عدد من بلدان العالم، وأعاد لمدن وقرى الأكراد أسماءها الكردية وسمح رسميا بالخطبة باللغة الكردية.
ومع مرور الوقت وتثبيت أردوغان لأقدامه في الحكم ولشعبية حزبه في الشارع التركي، بدأ يستعيد طبيعته الإسلامية، وظهرت علامات تدل على عودته لأصوله الإسلامية .. ظهر ذلك في تبسطه مع شعبه، ودفاعه – قدر طاقته – عن حق المواطن في التدين وحق المواطنة في الحجاب .. ثم عين حفيد الخلافة العثمانية "أحمد داوود أوغلو" وزيراً لخارجيته فتبنت حكومة "حزب العدالة والتنمية" نهجاً مدفعاً عن قضايا أمة الإسلام لاسيما قضية فلسطين .. بل وعاد الحزب إلى نهج أستاذه "أربكان" في السعي للعب دور قيادي على الساحة الإسلامية.
أدى كل ذلك إلى تنامي شعبية أردوغان ليس في تركيا وحدها بل في العالم الإسلامي بأسره، ليخوض "حزب العدالة والتنمية" الانتخابات في 2007 ويحظى بثقة الشعب المطلقة لفترة حكم ثانية، بل وتتصاعد نسبة الأصوات المؤيدة له من 35% في الانتخابات السابقة إلى 46%.
علامة الطريق الثامنة: قد يخطئ أصحاب الرسالات، لكنهم دائماً ما يعودون إلى الطريق القويم، فيصححوا أخطاءهم، ويقوموا سبيلهم، ويسترجعوا رسالتهم من جديد .. "إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون".
في ولايته الثانية بدأ "حزب العدالة والتنمية" في تنفيذ مشروع تنموي يخدم ملايين الأتراك الذين يعانون من الفقر والجهل والبطالة، فأعلن عن برنامج للنهوض بتركيا سياسياً واقتصادياً وعلمياً وتكنولوجياً وصناعياً ... وقد حقق هذا البرنامج نجاحاً كبيراً لاسيما في شقه الاقتصادي فانخفضت نسب البطالة والتضخم والفائدة، وارتفعت قيمة الليرة التركية ومتوسط دخل الفرد وحصيلة الصادرات التركية .. فارتفع مستوى معيشة الأتراك وأحس بذلك الفقراء قبل الأغنياء.
وفي العلاقات الخارجية استمر الحزب في دعم توجه تركيا نحو "الاتحاد الأوروبي" لكنه وازن هذا المسعى بترسيخ مبدأ التقارب مع العالم العربي والإسلامي، والدفاع عن قضايا المسلمين، ومساندة القضية الفلسطينية، ورفض منح المجال الجوي التركي لضرب أي بلد إسلامي .. وكان موقف أردوغان الشهير من الاعتداء على غزة وانسحابه من مؤتمر دافوس ثم قضية أسطول الحرية تكريس لنهج عاد بالحزب إلى ما كانت أمة الإسلام كلها تأمل فيه.
غير أن أهم ما قام به "حزب العدالة والتنمية" هو التقدم في مجال الحريات العامة وترسيخ الديمقراطية في البلاد، فقد قضى على الكثير من مظاهر انتهاك حرية الأفراد، ورسخ مبدأ حرية التظاهر السلمي والتعبير عن الرأي، ومنح الأقليات الكثير من حقوقها .. وأخيراً، تصدى للمحاولة الانقلابية الأخيرة للجيش فأحبطها قبل تمامها وأحال ضباطاً كباراً للمحاكمة.
علامة الطريق التاسعة: حين يمنح الله أصحاب الرسالات السلطان يقيمون العدل، ويحاربون الظلم، وينصفون الضعيف، ويخدمون دينهم وأوطانهم بمنهج معتدل متدرج، وبفقه وبصيرة وحكمة .. "الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور".
وفي يوم الأحد 27 فبراير 2011م توفي "نجم الدين أربكان" ... وقد شيعه ملايين الأتراك بمشاركة الرئيس "عبد الله جول" ورئيس الوزراء "رجب طيب أردوغان" الذي قطع زيارة رسمية لأوربا لحضور جنازة "أستاذه" المؤسس للحركة الإسلامية في تركيا، وصانع نهضة تركيا الحديثة، ومحيي أسسها الحضارية العميقة ... سألت الأستاذ "مصطفى الطحان": (كيف كانت الجنازة؟) .. قال: "لم أر لها مثيلاً في تركيا أو غيرها، فقد امتلأت الشوارع بملايين البشر، وشارك فيها كل من أحب أربكان أو كرهه، ورأيت تلامذة "الخوجة" كما يسمونه يذرفون دموعاً صادقة على معلمهم، وربما كان أصدقهم من انشقوا
عنه يوماً وآذوه وهجروه .. لقد رأيت جول وأردوغان يبكون بصدق فأكبرت فيهم صنيعهم".
أصدقكم القول .. لم أكن أرتاح ل "رجب طيب أردوغان" وإخوانه، ودفعني لذلك ما أعتبره "نكراناً للجميل" في حق أستاذهم "نجم الدين أربكان" عليه رحمة الله .. غير أني علمت أنه تناسى جراحه قبل موته، بل وكان على استعداد أن يناصر "تلامذته المشاغبين" في الانتخابات الأخيرة .. ثم رأيت دموعاً صادقة لرجب طيب وعبد الله جول تبلل نعش أستاذهم .. فصفحت عنهم .. واليوم قلبي معهم .. ودعائي أيضاً.
كنت في زيارة لاستنبول قبل أيام من الانتخابات الأخيرة، وقالت استطلاعات الرأي أن "حزب العدالة والتنمية" سيفوز بنسبة 43% .. وقال الأستاذ "مصطفى الطحان": (سيفوز بأكثر من ذلك) .. قلت: "لماذا؟" .. قال: "من أربع سنوات كنت أسأل كل سائق تاكسي أركب معه في استنبول: "لمن ستعطي صوتك؟" .. وكانت الإجابات منقسمة بعضها يقول "رجب" .. والآخر يقول غيره ... أما هذه الأيام فما سألت سائق تاكسي في استنبول إلا قال: "طبعاً .. رجب طيب" .. وحين تسأل لماذا؟ يقول: "لأنه طيب" ثم يبتسم ويقول: "لم نر عصراً من السعة والحرية مثل هذه السنوات التسع".
والآن ... بعد أن حصد "حزب العدالة والتنمية" نصف أصوات الناخبين و326 مقعداً في البرلمان، وقف زعيمه "رجب طيب أردوغان" يخطب في الجماهير الفرحة ليقول: "لم يفوضنا الشعب فقط في الحكم لأربع سنوات قادمة، وإنما فوضنا – بالتعاون مع الأحزاب الأخرى – في صياغة دستور جديد للبلاد يعبر عن كل مواطن في تركيا" ... لقد حقق الإسلاميون في تركيا إنجازا لم يحققه أحد منذ مؤسس تركيا الحديثة "أتاتورك" .. وهم يرسمون الآن ملامح وجه تركيا الحقيقي بصبر وروية وحكمة.
علامة الطريق الأخيرة: الزمن جزء من العلاج .. فأصحاب الرسالات لا يتعجلون قطف الثمار، بل نهجهم التدرج، وطريقهم التروي، وسبيلهم التعاون مع الآخرين ليصلوا بالأمة إلى ما أراده لها ربها من الحرية والعزة والكرامة.
لقد وصلت تركيا – أو كادت – إلى ما تصبو إليه ... فهل نعي في مصر وفي عالمنا العربي هذه الدروس، ونلحظ هذه العلامات على الطريق، لنلحق بأشقائنا الأتراك ونضع أيدينا في أيديهم لبناء غد أجمل لأمة الإسلام؟ .. أرجو أن نفعل .. والله معنا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.