في ذلك اليوم أصبح «شديد التقدير للحرية».. حرية الرأى.. حرية التعبير.. وحرية الحركة.. ليس لأنه لم يكن يدرك ذلك المعنى من قبل وإنما لأنه كان بالنسبة للحرية كالمريض الذي لم يقدر نعمة الصحة إلا بعد الإصابة بالمرض.. «فالحرية كالصحة من أكبر نعم الله.. ولكن.. الإنسان لا يقدرها حق قدرها إلا بعد أن تزول». بخط يده كتب تلك الكلمات الدكتور عبدالرازق السنهوري أشهر وأعظم صائغ للقانون في مصر وهو على شاطئ الإسكندرية في 19 أغسطس عام 1954 بعد حادث الاعتداء عليه في 29 مارس من العام نفسه وهو في مجلس الدولة.. أعلى سلطة قانونية تحقق العدالة بين الوطن والمواطن. كان الدكتور عبدالرازق السنهوري من المتحمسين لثورة يوليو والمؤيدين بما جعله ينفذ لها ما تشاء.. ولو على حساب الحرية السياسية التي تغني بها بعد فقدها.. فتحمس لتولي العسكريين رئاسة الحكومة.. ورفض عودة البرلمان الوفدي الأخير. وشجع على إلغاء الأحزاب.. وضرب رموزها.. وهو ما جعل ضباط الثورة «الشبان» يندفعون إلى هاوية الحكم الفردي.. المباشر.. بلا معارضة.. ولكن.. عندما احتدم الصراع فيما سمي بأزمة مارس عام 1954 بين أنصار الديمقراطية وأنصار الثورة كان جزاء الدكتور عبدالرازق السنوري الضرب والإهانة ووصفه بالخيانة. لقد خرجت المظاهرات المضادة للديمقراطية من هيئة التحرير (أول تنظيم سياسي للثورة) يقودها ضابط برتبة رائد (صاغ) يسمى حسين عرفة.. كان وكيلا للبوليس الحربي.. حضر إلى مكتبه في مجلس الدولة، وطلب منه فتح الباب الخارجي أمام المتظاهرين والخروج إليهم والتحدث معهم. وكان غالبيتهم من عمال النقل العام يقودهم شخص دخل تاريخ العمل السياسي من باب البلطجة باسم «صو صو».. اختصارا لاسمه الحقيقي.. وهو صاوي محمد صاوي..ولكن.. ما أن حدث ذلك حتى فوجئ بمن يصرخ فيه.. «تحيا الثورة.. تحيا الأمة.. تسقط الرجعية».. «الموت للخونة».. ثم وجد نفسه تحت اللكمات والضربات. كان الهدف هو منع اجتماع الجمعية العمومية لمجلس الدولة الذي كان سيصدر بيانا ينحاز فيه للديمقراطية على حساب التصرفات والقرارات الثورية.. وقبل ذلك بيومين كان الدكتور عبدالرازق السنهوري قد التقى بواحد من رموز جماعة الإخوان المسلمين.. هو عبدالحكيم عابدين.. وكان اللقاء في بيت الدكتور أحمد زكي.. وفي ذلك اللقاء عرض الدكتور عبدالرازق السنهوري عليه اشتراك جماعته في الحكم.. متراجعا عن حماسه للسلطة العسكرية التي دعاها للسيطرة على مقدرات البلاد.. لكن.. ذلك التراجع جاء متأخرا.. بعد فوات الأوان.. على طريقة فرنكشتين.. فقد كبر الوحش.. وازداد شراسة.. وأصبح مستعدا لالتهام من صنعه وأطعمه ورباه. أمام النيابة العامة سئل الدكتور عبدالرازق السنهوري: «تتهم من بتدبير حادث الاعتداء عليك؟».. وكانت إجابته بغير تردد: «جمال عبدالناصر».. وحسب مصادر متنوعة فإن جمال عبدالناصر ذهب بنفسه إلى بيت الدكتور عبدالرازق السنهوري لمقابلته.. لكنه.. رفض مقابلته.. واقفلت زوجته الباب في وجهه. وفي أول ورقة من أوراقه الشخصية التي نشرتها ابنته نادية وزوجها توفيق الشاوي فيما بعد علق الدكتور عبدالرازق السنهوري على ما جرى له بطريقة رمزية.. غير مباشرة.. وقال: «عقاب الرذيلة أفضل من إثابة الفضيلة.. ذلك بأن الفضيلة تحمل جزاءها في ذاتها.. أما الرذيلة فهي في أشد الحاجة إلى العقاب.. لا يجوز أن تنزل الرذيلة مسلحة إلى الفضيلة وهى عزلاء.. بل يجب حتى تنهزم الرذيلة أن تتسلح بالفضيلة». والأوراق الشخصية للدكتور عبدالرازق السنهوري هى مجرد خواطر عابرة في الحياة والدين والشريعة والخير والشر والإيمان بالله. لا اتصور أنها ترقى للمستوى الذي وصل إليه صاحبها في مجال القانون والتشريعات.. إنها لا تزيد كثيرا عن خواطر طالب ثانوي مجتهد.مثلا.. يكتب: «كل إنسان محكوم عليه بالإعدام ولكنه لا يعرف ميعاد التنفيذ». ما الجديد في ذلك؟.. ومثلا.. يكتب: «أؤمن بالله كل الإيمان.. وأؤمن بأن لي رسالة في الحياة لم أتمها.. واستعين على إتمامها بالله».. ما الإبداع في ذلك؟.. ومثلا.. يدعو إلى الله قائلا: «اللهم إني أسالك أن تخذل الشر على يدي وأن تنصر الخير على يدي».. ما الملفت للنظر في ذلك؟. وكثير من الآراء السياسية التي توصل إليها تكشف عن ضعف في تحليلاته وتصوراته ولو كتبها شخص آخر غيره لما فكرنا في الاقتراب منها.. فهى لا تتجاوز البديهيات والمسلمات التي يعرفها عامة الناس.. مثلا يرى الفرق بين الديمقراطية والديكتاتورية في «إن الحاكم في النظام الديمقراطي يستشعر الخوف من المسؤولية».. أما الحاكم في النظام الديكتاتوري «فيستشعر الخوف من الاغتيال».. وهو تصور يتجاوزه الواقع في كثير من الأحيان.. فقد قتل جون كيندي وهو حاكم ديمقراطي.. ولم يقتل جعفر نميري وهو ديكتاتور.. ولا نضيف أمثلة أخرى.. وهى كثيرة.. لاتخلو منها صفحات الكتاب الذي نشرته دار الشروق. ولكن.. تلك الأوراق هى الفرصة الوحيدة.. لمعرفة سيرة حياة رجل لعب دوراً شامخاً في تأسيس قواعد العدالة.. ويمكن وصفه بأنه «أبو القانون الحديث في مصر والعالم العربي».. لقد ولد في الاسكندرية في 11 أغسطس عام 1895..ومات أبوه وهو في السادسة من عمره.. وكان موظفا صغيرا في بلدية الاسكندرية.. وقد لجأ إلى الوظيفة بعد أن بدد ثراءه الذي ورثه عن أبيه. تفوق الدكتور عبدالرازق السنهوري في دراسته الابتدائية والثانوية.. ليكون الثاني في التوجيهية على مستوى القطر المصري.. وهو ما فتح له الطريق لدراسة الحقوق.. عام 1913..وكان الأول على دفعته.. ليعين فور تخرجه وكيلا للنيابة في مدينة المنصورة.. عندما قامت ثورة 1919 (بقيادة سعد زغلول) شارك فيها.. فعوقب بالنقل إلى مدينة أسيوط.. لكنه.. عاد من جديد إلى القاهرة ليصبح مدرسا في مدرسة القضاء الشرعي.. وفي يوم ميلاده ولكن سنة 1921 سافر بالبحر على ظهر الباخرة «سفنكس» إلى فرنسا وعمره 27 سنة لتكملة دراسته العليا في القانون.. وبقي هناك نحو خمس سنوات.. حصل فيها على الدكتوراه في القضاء الإنجليزي.. الانجلو سكسوني.. من جامعة ليون.. وفاز بها بجائزة أحسن رسالة دكتوراه في تلك الجامعة.. وحصل على دكتوراه أخرى في العلوم السياسية عن «نظام الخلافة في الفقه الإسلامي».. ونشرها باللغة الفرنسية.. وطبعت في باريس.. وفيما بعد سعت ابنته إلى ترجمتها إلى اللغة العربية.. وهو ما جعلها تكتشف أوراق أبيها الشخصية التي لم تقترب منها سنوات طويلة بعد وفاته. بعد العودة إلى مصر قام الدكتور عبدالرازق السنهوري بالتدريس في الجامعة.. وعمل بالقضاء..والمحاكم المختلطة.. وسعى جاهدا لتعديل القوانين.. وتقنينها.. وأنشأ معهد الدراسات العربية العالية.. ليكون «إطارا للدراسات المقارنة بين الشريعة والقوانين العصرية من أجل النهوض بفقه الشريعة وجعلها مصدر التشريعات الوضعية. كما ينسب إليه وضع القانون المدني القائم.. ودساتير عدد لا بأس به من الدول العربية.. وتمنى قبل وفاته أن يضع تشريعا موحدا للأحوال الشخصية يساعد على تهدئة العلاقات الإنسانية والعاطفية في مجتمع يؤمن بفضيلة الأسرة وبقائها».لقد كنت أتمنى ألا يورط الدكتور عبدالرازق السنهوري نفسه ويدخل غابة السياسة بكل ما فيها من ديناصورات وذئاب شرسة.. كاسرة.. تلتهم أمثاله من الأبرياء وتستخدمهم فيما تريد ثم تلقى بهم عظما بعد أن تلتهم لحمهم.. ولكن.. ما باليد حيلة.. فقد نفذ سهم الله.. ولا نملك سوى قراءة ما نتج عنه.. وتبقى منه. -------- صحيفة الاهرام المصرية في 18 -6 -2005